الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا من عرف خفي لطف الله تعالى رضي بفعله على كل حال .

ويروى أن عيسى عليه السلام : مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بفالج وقد تناثر لحمه من الجذام ، وهو يقول : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرا من خلقه . فقال له عيسى : يا هذا ، أي شيء من البلاء أراه مصروفا عنك ؟ فقال : يا روح الله ، أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته . فقال له : صدقت ، هات يدك . فناوله يده فإذا هو أحسن الناس وجها ، وأفضلهم هيئة وقد ، أذهب الله عنه ما كان به فصحب عيسى عليه السلام وتعبد معه .

وقطع عروة بن الزبير رجله من ركبته من أكلة خرجت بها ثم قال الحمد لله الذي أخذ مني واحدة وأيمك ، لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ثم لم يدع ورده تلك الليلة .

وكان ابن مسعود يقول : الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيتهما ركبت ، إن كان الفقر فإن فيه الصبر ، وإن كان الغنى فإن فيه البذل .

وقال أبو سليمان الداراني قلت قد نلت من كل مقام حالا إلا الرضا ، فما لي ، منه إلا مثال الريح ، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة وأدخلني النار كنت بذلك راضيا .

وقيل لعارف آخر هل نلت غاية الرضا عنه ؟ فقال : أما الغاية فلا ، ولكن مقام الرضا قد نلته لو جعلني جسرا على جهنم يعبر الخلائق علي إلى الجنة ثم ملأ بي جهنم تحلة لقسمه وبدلا من خليقته لأحببت ذلك من حكمه ورضيت به من قسمه .

وهذا كلام من علم أن الحب قد استغرق همه حتى منعه الإحساس بألم النار ، فإن بقي إحساس فيغمره ما يحصل من لذته في استشعاره حصول رضا محبوبه بإلقائه إياه في النار .

واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه ، وإن كان بعيدا من أحوالنا الضعيفة ، ولكن لا ينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم أحوال الأقوياء ويظن أن ما هو عاجز عنه يعجز عنه الأولياء .

وقال الروذباري قلت لأبي عبد الله بن الجلاء الدمشقي قول فلان : وددت أن جسدي قرض بالمقاريض ، وأن هذا الخلق أطاعوه . ما معناه ؟ فقال : يا هذا ، إن كان هذا من طريق التعظيم والإجلال فلا أعرف وإن كان هذا من طريق الإشفاق والنصح للخلق فأعرف قال ثم غشي عليه .

وقد كان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه ، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد قد ، نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء فجعل : يبكي لما يراه من حاله ، فقال لم تبكي ؟ قال : لأني أراك على هذه الحالة العظيمة . قال : لا تبك ، فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي . ثم قال : أحدثك شيئا لعل الله أن ينفعك به ، واكتم علي حتى أموت ، إن الملائكة تزورني فآنس بها ، وتسلم علي فأسمع تسليمها فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة ؛ إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة فمن يشاهد هذا في بلائه كيف لا يكون راضيا به ؟! قال : ودخلنا على سويد بن مثعبة نعوده فرأيناه ، ثوبا ملقى ، فما ظننا أن تحته شيئا حتى كشف ، فقالت له امرأته : أهلي فداؤك ، ما نطعمك .

؟ ما نسقيك ؟ فقال : طالت الضجعة ، ودبرت الحراقيف وأصبحت نضوا لا أطعم طعاما ولا أسيغ شرابا منذ كذا ، فذكر أياما وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر ولما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة وقد كان ، كف بصره ، جاءه الناس يهرعون إليه ، كل واحد يسأله أن يدعو له ، فيدعو لهذا ولهذا ، وكان مجاب الدعوة قاله عبد الله بن السائب فأتيته وأنا غلام ، فتعرفت إليه فعرفني ، وقال : أنت قارئ أهل مكة ؟ قلت : نعم . فذكر قصة قال في آخرها : فقلت له : يا عم ، أنت تدعو للناس ، فلو دعوت لنفسك . فرد الله عليك بصرك ! فتبسم وقال : يا بني ، قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري وضاع لبعض الصوفية ولد صغير ثلاثة أيام لم يعرف له خبر ، فقيل له : لو سألت الله تعالى أن يرده عليك ! فقال : اعتراضي عليه فيما قضى أشد علي من ذهاب ولدي .

وعن بعض العباد أنه قال : إني أذنبت ذنبا عظيما ، فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة ، وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من الذنب فقيل ، له : وما هو ؟ قال : قلت مرة لشيء كان ليته لم يكن .

وقال بعض السلف : لو قرض جسمي بالمقاريض لكان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى سبحانه ليته لم يقضه .

وقيل لعبد الواحد بن زيد ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة ، فقصده فقال له : يا حبيبي ، أخبرني عنك ، هل قنعت به ؟ قال : لا . قال : أنست به ؟ قال : لا . قال : فهل رضيت عنه ؟ قال : لا . قال : فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة . قال : نعم . قال : لولا أني أستحيي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة ومعناه أنك لم يفتح لك باب القلب فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب ، وإنما أنت تعد في طبقات أصحاب اليمين ؛ لأن مزيدك منه في أعمال الجوارح التي هي مزيد أهل العموم .

ودخل جماعة من الناس على الشبلي رحمه الله تعالى في مارستان قد حبس فيه ، وقد جمع بين يديه حجارة ، فقال : من أنتم ؟ فقالوا : محبوك . فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا ، فقال : ما بالكم ادعيتم محبتي ! إن صدقتم فاصبروا على بلائي .

وللشبلي رحمه الله تعالى :


إن المحبة للرحمن أسكرني وهل رأيت محبا غير سكران .

وقال بعض عباد أهل الشام كلكم يلقى الله : عز وجل : مصدقا ولعله قد كذبه ، وذلك أن أحدكم لو كان له إصبع من ذهب ظل يشير بها ولو كان بها شلل ظل يواريها يعني بذلك أن 661 الذهب مذموم عند الله ، والناس يتفاخرون به ، والبلاء زينة أهل الآخرة ، وهم يستنكفون منه .

التالي السابق


(فإذا من عرف خفي لطف الله تعالى بفعله على كل حال، ويروى) في الإسرائيليات: (أن عيسى -عليه السلام- مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين يعالج وقد تناثر لحمه من الجذام، وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرا من خلقه. فقال له عيسى: يا هذا، أي شيء من البلاء أراه مصروفا عنك؟ فقال: [ ص: 659 ] يا روح الله، أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته. فقال له: صدقت، هات يدك. فناوله يده) فابرأه الله مما كان به (فإذا هو أحسن الناس وجها، وأفضلهم هيئة، قد أذهب الله عنه ما كان به) ببركة رضاه عن ربه (فصحب عيسى) -عليه السلام- مدة (وتعبد معه، وقطع) أبو عبد الله (عروة بن الزبير) بن العوام القرشي الأسدي المدني أحد فقهاء المدينة السبعة (رجله من ركبته من أكلة خرجت بها) ، وكان قد خرج إلى الوليد بن عبد الملك فخرجت برجله الأكلة، فقطعها وسقط ابن له عن ظهر بيت مشرف على موضع خيل الوليد، فوقع تحت أرجل الدواب فوطئته (ثم قال) ، وقد أتاه رجل يعزيه ولم يدر بابنه وقال له: إن ابنك قطعته الدواب (الحمد لله الذي أخذ مني واحدة، وأيمك لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت فقد عافيت) وقال: لقد لقينا في سفرنا هذا نصبا. هكذا رواه هشام بن عروة.

ومن طريق آخر لما أصيب برجله وبابنه محمد قال: اللهم كانوا سبعة فأخذت واحدا وأبقيت ستة، وكن أربعا فأخذت واحدة وأبقيت ثلاثا، وأيمك لئن كنت أخذت لقد أبقيت ولئن كنت ابتليت لقد أعفيت. وعن هشام أيضا قال: وقعت الأكلة في رجله، فقيل: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: إن شئتم. فجاء الطبيب فقال: أسقيك شرابا يزول فيه عقلك. فقال: امض لشأنك، ما ظننت أن خلقا يشرب شرابا يزول فيه عقله حتى لا يعرف ربه. قال: فوضع الميشار على ركبته اليسرى ونحن حوله، فما سمعنا له حسا، فلما قطعها جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت. (ثم لم يدع ورده) من القراءة (تلك الليلة) ، وكان ورده ربع القرآن كل يوم نظرا من المصحف ويقوم به الليل. وذكر الزبير بن بكار أن عيسى بن طلحة جاء إلى عروة حين قدم من عند الوليد بن عبد الملك، وقد قطعت رجله، فقال لبعض بنيه: اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها. فنظر فقال عيسى: يا أبا عبد الله، ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله -عز وجل- لنا ما كنا نحتاج إليه منك؛ رأيك وعلمك. فقال عروة: ما عزاني أحد على رجلي مثلك. (وكان ابن مسعود) -رضي الله عنه- (يقول: الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيتهما ركبت، إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البذل) رواه الطبراني.

ومن طريق أبو نعيم في الحلية، حدثنا عمر بن حفص، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، حدثنا علي بن بذيمة، عن قيس بن جبتر، عن عبد الله قال: ألا حبذا المكروهان؛ الموت والفقر، وايم الله إن هو إلا الغنى والفقر، وما أبالي بأيهما ابتليت؛ إن كان الغنى إن فيه للعطف، وإن كان الفقر إن فيه للصبر. (وقال أبو سليمان الداراني) -رحمه الله تعالى- (قد نلت من كل مقام حالا إلا الرضا، فما لي منه إلا مثال الريح، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة وأدخلني النار كنت بذلك راضيا) نقله صاحب القوت إلا أنه قال: وقال بعض العارفين: .. وساقه. وقال في موضع آخر: ومن الناس من كان يقدم سليمان بن أبي سليمان الداراني على أبيه، وكان عارفا، فقال: من تورع في كل شيء فقد بلغ حد الورع، ومن زهد في كل شيء فقد بلغ حد الزهد، ومن رضي عن الله في كل شيء فقد بلغ حد الرضا. فإنما قال هذا كالرد على أبيه قال: ثلاث مقامات لا حد لها؛ الورع والزهد والرضا. اهـ .

وقد تقدم في كتاب الزهد عن أبي سليمان نحو هذا أنه ليس له منه إلا مشام الريح، وتقدم الكلام هناك (وقيل لعارف آخر) فوقه: (هل نلت غاية الرضا عنه؟ فقال: أما الغاية فلا، ولكن مقام) من (الرضا فقد نلت لو جعلني جسرا على جهنم يعبر الخلائق علي إلى الجنة ثم ملأ بي جهنم تحلة لقسمه وبدلا من خليقته لأحببت ذلك من حكمه ورضيت به من قسمه) نقله صاحب القوت، وأراد بقوله: "تحلة لقسمه" ما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ، وقد روي هذا القول بوجه آخر، قال القشيري: سمعت السلمي يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت ابن أبي حسان الأنماطي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان يقول: أرجو أن أكون عرفت طرفا من الرضا لو أنه أدخلني النار لكنت به راضيا. انتهى .

(وهذا كلام من علم أن الحب قد استغرق همه حتى منعه الإحساس بألم النار، فإن بقي إحساس فيغمره ما يحصل من لذته في استشعاره حصول رضا محبوبه بإلقائه إياه في النار، واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه، وإن كان بعيدا من أحوالنا [ ص: 660 ] الضعيفة، ولكن لا ينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم أحوال الأقوياء ويظن أن ما هو عاجز عنه يعجز عنه الأولياء، وقال) أبو علي أحمد بن محمد (الروذباري) بغدادي أقام بمصر ومات بها سنة 322 صحب الجنيد والنوري وابن الجلاء والطبقة (قلت لأبي عبد الله) أحمد بن يحيى (بن الجلاء) البغدادي الأصل (الدمشقي) الإقامة، صحب أبا تراب النخشبي، وذا النون، وأبا عبيد اليسري، وأبا يحيى الجلاء (قول فلان: وددت أن جسدي قرض بالمقاريض، وأن هذا الخلق أطاعوه. ما معناه؟ فقال: يا هذا، إن كان هذا من طريق الإشفاق والنصح للخلق فأعرف، وإن كان من طريق التعظيم والإجلال فلا أعرف. قال: ثم غشي عليه) نقله صاحب القوت. (وقد كان عمران بن الحصين) رضي الله عنهما (قد استسقي بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة) سطيحا (لا يقوم ولا يقعد، وقد نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته) غائطه وبوله (فدخل عليه مطرف) بن عبد الله بن الشخير العامري الحرشي البصري أبو عبد الله من ثقات التابعين وعبادهم، روى له الجماعة، مات سنة خمس وتسعين (وأخوه العلاء) كذا في النسخ. وفي القوت: أو أخوه أبو العلاء، والصواب: أبو العلاء، وهو يزيد بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، مات سنة إحدى عشرة ومائة، ومولده في خلافة عمر، روى له الجماعة (فجعل) أي: مطرف، أو أخوه (يبكي لما يرى من حاله، فقال) عمران: (لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحال العظيمة. قال: لا تبك، فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي. ثم قال: أحدثك شيئا لعل الله أن ينفعك به، واكتم علي حتى أموت، إن الملائكة تزورني فآنس بها، وتسلم علي فأسمع تسليمها) وتقدم في باب التوكل أن ذلك التسليم كان قد انقطع عنه لما اكتوى على بطنه بإلزام الأمير له، ثم بعد ذهاب أثر الكي عاد إليه ذلك (فأعلم بذلك) عمران (أن هذا البلاء ليس بعقوبة؛ إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة) وما فيه مثل هذه الآية إنما هو كرامة ورحمة، وذلك أن بلاء العقوبات لا تكون معه الآيات، ولأنه قد كان حزن عليه فأراد أن يسره (فمن يشاهد هذا في بلائه كيف لا يكون راضيا به؟! قال: ودخلنا على سويد بن مثعبة) هكذا في النسخ بفتح الميم وسكون المثلثة وعين مهملة، وفي بعض النسخ: سويد بن شعبة، وهو تصحيف (نعوده، فرأينا ثوبا ملقى، فما ظننا أن تحته شيئا حتى كشف، فقالت له امرأته: أهلي فداؤك، ما نطعمك؟ ما نسقيك؟ فقال: طالت الضجعة، ودبرت الحراقيف) ، أي: عظام الجنبين (وأصبحت نضوا) ، أي: هزيلا مثل الثوب الخلق (لا أطعم طعما ولا أسيغ شرابا منذ كذا، فذكر أياما) مضت عليه (وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر) نقله صاحب القوت، وهذا مقام الراضي بما أبلاه ربه .

قال صاحب القوت: اعتل حذيفة -رضي الله عنه- علة الموت، فجعل يقول: اخنقني خناقك، فوعزتك إنك لتعلم أني أحبك، فلما حضره الموت جعل يقول: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم. قال: وروي أيضا مثل هذا عن أبي هريرة، وأنشدوا:

يا حبيبا بذكره يتوارى وصفوه لكل داء مجيب من أراد الطبيب سرى إذا أعـ
ـقل اشتياقا إلى لقاء الطبيب من أراد الحبيب سار إليه
وجفا الأهل دونه والقريب ليس داء المحب داء يداوى
إنما برده لقاء الحبيب

(ولما قدم سعد بن أبي وقاص) -رضي الله عنه- (إلى مكة، وكان قد كف بصره، جاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة) لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا له في ذلك، فقال: اللهم أجب لسعد دعوته. (قال عبد الله بن السائب) واسمه صيفي بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزوم، أبو السائب، ويقال: أبو عبد الرحمن المكي القارئ، له ولأبيه صحبة، وهو والد محمد بن عبد الله [ ص: 661 ] وكان قارئ أهل مكة، وعنه أخذ أهل مكة القراءة، روى له الجماعة إلا البخاري. (فأتيته وأنا غلام، فتعرفت إليه فعرفني، وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم. فذكر قصة قال في آخرها: فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس، فلو دعوت لنفسك. فرد الله عليك بصرك! فتبسم وقال: يا بني، قضاء الله عندي أحسن من بصري) نقله صاحب القوت. (وضاع لبعض الصوفية ولد صغير ثلاثة أيام لم يعرف له خبر، فقيل له: لو سألت الله تعالى أن يرده عليك! فقال: اعتراضي عليه فيما قضى أشد علي من ذهاب ولدي) نقله صاحب القوت .

(و) حكي (عن بعض العباد) أنه (قال: إني أذنبت ذنبا عظيما، فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة، وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من ذلك الذنب، قيل له: وما هو؟ قال: قلت مرة لشيء كان ليته لم يكن) نقله صاحب القوت. (وقال بعض السلف: لو قرض جسمي بالمقاريض لكان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله ليته لم يقضه) نقله صاحب القوت. (وقيل لعبد الواحد بن زيد) البصري العابد -رحمه الله تعالى- (ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة، فقصده فقال له: يا حبيبي، أخبرني عنك، هل قنعت به؟ قال: لا. قال: فهل أنست به؟ قال: لا. قال: فهل رضيت عنه؟ قال: لا. قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة. قال: نعم. قال: لولا أني أستحي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة) نقله صاحب القوت. وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا عمر بن بحر، سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: حدثنا أبو عبد الله النباجي قال: قيل لعبد الواحد بن زيد: إن بالبصرة رجلا يصلي ويصوم منذ خمسين سنة. قال: فأتاه عبد الواحد، فقال: إن الله شكور، ومن عمل له أثابه؛ فأي شيء أثابك من عملك له منذ خمسين سنة هل قنعت به؟ قال: لا. قال: فهل رضيت عنه؟ قال: لا. قال: فهل أنست به بعد؟ قال: لا. قال: فإنما ثوابك من عملك المزيد في الصوم والصلاة. قال: نعم. قال: لولا أني أستحي منك لأعلمتك أن عملك مدخول. انتهى .

(ومعناه أنه لم يفتح لك باب القلب فترقى إلى درجات القرب بأعمال القلوب، وإنما أنت تعد في طبقة أصحاب اليمين؛ لأن مزيدك منه في أعمال الجوارح التي هي مزيد أهل العموم) ولفظ القوت: أراد بذلك أنه لم يقربك فيجعلك في مقام المقربين، فيكون في مزيدك لديه أعمال القلوب إنما أنت عنده في طبقة أصحاب اليمين، فمزيدك منه مزيد الصوم، وقد يكون الرجل مصلحا في مقامه، وإن كان فوقه فوق (ودخل جماعة من الناس على) أبي بكر (الشبلي) -رحمه الله تعالى- (في مارستان قد حبس فيه، وقد جمع بين يديه حجارة، فقال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك. فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا، فقال: ما بالكم ادعيتم محبتي! إن صدقتم فاصبروا على بلائي) رواه القشيري في الرسالة، ولفظه: حبس الشبلي في المارستان فدخل عليه جماعة، فقال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك يا أبا بكر. فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا، فقال: إن ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي. وأنشد الشبلي، فقال:

يا أيها السيد الكريم حبك بين الحشا مقيم
يا رافع النوم عن جفوني أنت بما مر بي عليم

وقد روى صاحب مصارع العشاق نحو هذه القصة. (وللشبلي -رحمه الله تعالى-:

إن المحبة للرحمن أسكرني وهل رأيت محبا غير سكران )

(وقال بعض عباد أهل الشام) وعلمائهم، وهو أبو محيريز -رحمه الله تعالى- كلمة غريب المعنى دقيقة في معنى المخالفة لله -عز وجل- فإن كان قد فسرها فإنه لم يكشف معناها لفهم السامعين منه الحاضرين عنده، فيحتاج تفسيرها إلى تفسير حكي عنه أنه قال: (كلكم يلقى الله -عز وجل- مصدقا ولعله قد كذبه، وذلك أن أحدكم لو كان له أصبع من ذهب ظل يشير بها ولو كان بها شلل) ، أي: عيوب ونقص (ظل يواريها يعني بذلك أن [ ص: 662 ] الذهب) زينة الدنيا، وهو (مذموم عند الله تعالى، والناس يتفاخرون به، والبلاء زينة الآخرة، وهم يستنكفون منه) ، أي: فأنت إذا أعطاك زينة الدنيا التي ذمها عندك أظهرت سننها وفخرت بها، وإذا أعطاك زينة الآخرة التي مدحها عندك، وهو المصائب والبلايا والفقر كرهتها وأخفيتها لئلا تعاب بذلك، فحسب عليه حب الدنيا والغنى والتزين به وكراهة البلاء والفقر تكذيبا لله تعالى وردا عليه ما وصفه، وهذا يدخل في باب الزهد وفي الرضا، ويدخل على من أخفى الفقر والبلاء حياء من الناس؛ لئلا يعاب بذلك فهو من ضعف يقينه بقوة شاهد الخلق، ويدخل فيه من أظهر الغنى من غير نية، ولا نحدث بنعم الله تعالى، فذلك أيضا من قوة شاهد حب الدنيا، كذا في القوت .




الخدمات العلمية