ويروى أن عيسى عليه السلام : مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بفالج وقد تناثر لحمه من الجذام ، وهو يقول : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرا من خلقه . فقال له عيسى : يا هذا ، أي شيء من البلاء أراه مصروفا عنك ؟ فقال : يا روح الله ، أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته . فقال له : صدقت ، هات يدك . فناوله يده فإذا هو أحسن الناس وجها ، وأفضلهم هيئة وقد ، أذهب الله عنه ما كان به فصحب عيسى عليه السلام وتعبد معه .
وقطع عروة بن الزبير رجله من ركبته من أكلة خرجت بها ثم قال الحمد لله الذي أخذ مني واحدة وأيمك ، لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ثم لم يدع ورده تلك الليلة .
وكان يقول : ابن مسعود إن كان الفقر فإن فيه الصبر ، وإن كان الغنى فإن فيه البذل . الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيتهما ركبت ،
وقال قلت قد نلت من كل مقام حالا إلا الرضا ، فما لي ، منه إلا مثال الريح ، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة وأدخلني النار كنت بذلك راضيا . أبو سليمان الداراني
وقيل لعارف آخر هل نلت غاية الرضا عنه ؟ فقال : أما الغاية فلا ، ولكن مقام الرضا قد نلته لو جعلني جسرا على جهنم يعبر الخلائق علي إلى الجنة ثم ملأ بي جهنم تحلة لقسمه وبدلا من خليقته لأحببت ذلك من حكمه ورضيت به من قسمه .
وهذا كلام من علم أن الحب قد استغرق همه حتى منعه الإحساس بألم النار ، فإن بقي إحساس فيغمره ما يحصل من لذته في استشعاره حصول رضا محبوبه بإلقائه إياه في النار .
واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه ، وإن كان بعيدا من أحوالنا الضعيفة ، ولكن لا ينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم أحوال الأقوياء ويظن أن ما هو عاجز عنه يعجز عنه الأولياء .
وقال الروذباري قلت لأبي عبد الله بن الجلاء الدمشقي قول فلان : وددت أن جسدي قرض بالمقاريض ، وأن هذا الخلق أطاعوه . ما معناه ؟ فقال : يا هذا ، إن كان هذا من طريق التعظيم والإجلال فلا أعرف وإن كان هذا من طريق الإشفاق والنصح للخلق فأعرف قال ثم غشي عليه .
وقد كان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه ، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد قد ، نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء فجعل : يبكي لما يراه من حاله ، فقال لم تبكي ؟ قال : لأني أراك على هذه الحالة العظيمة . قال : لا تبك ، فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي . ثم قال : أحدثك شيئا لعل الله أن ينفعك به ، واكتم علي حتى أموت ، إن الملائكة تزورني فآنس بها ، وتسلم علي فأسمع تسليمها فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة ؛ إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة فمن يشاهد هذا في بلائه كيف لا يكون راضيا به ؟! قال : ودخلنا على سويد بن مثعبة نعوده فرأيناه ، ثوبا ملقى ، فما ظننا أن تحته شيئا حتى كشف ، فقالت له امرأته : أهلي فداؤك ، ما نطعمك .
؟ ما نسقيك ؟ فقال : طالت الضجعة ، ودبرت الحراقيف وأصبحت نضوا لا أطعم طعاما ولا أسيغ شرابا منذ كذا ، فذكر أياما وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر ولما قدم إلى سعد بن أبي وقاص مكة وقد كان ، كف بصره ، جاءه الناس يهرعون إليه ، كل واحد يسأله أن يدعو له ، فيدعو لهذا ولهذا ، وكان مجاب الدعوة قاله عبد الله بن السائب فأتيته وأنا غلام ، فتعرفت إليه فعرفني ، وقال : أنت قارئ أهل مكة ؟ قلت : نعم . فذكر قصة قال في آخرها : فقلت له : يا عم ، أنت تدعو للناس ، فلو دعوت لنفسك . فرد الله عليك بصرك ! فتبسم وقال : يا بني ، قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري وضاع لبعض الصوفية ولد صغير ثلاثة أيام لم يعرف له خبر ، فقيل له : لو سألت الله تعالى أن يرده عليك ! فقال : اعتراضي عليه فيما قضى أشد علي من ذهاب ولدي .
وعن بعض العباد أنه قال : إني أذنبت ذنبا عظيما ، فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة ، وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من الذنب فقيل ، له : وما هو ؟ قال : قلت مرة لشيء كان ليته لم يكن .
وقال بعض السلف : لو قرض جسمي بالمقاريض لكان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى سبحانه ليته لم يقضه .
وقيل لعبد الواحد بن زيد ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة ، فقصده فقال له : يا حبيبي ، أخبرني عنك ، هل قنعت به ؟ قال : لا . قال : أنست به ؟ قال : لا . قال : فهل رضيت عنه ؟ قال : لا . قال : فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة . قال : نعم . قال : لولا أني أستحيي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة ومعناه أنك لم يفتح لك باب القلب فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب ، وإنما أنت تعد في طبقات أصحاب اليمين ؛ لأن مزيدك منه في أعمال الجوارح التي هي مزيد أهل العموم .
ودخل جماعة من الناس على الشبلي رحمه الله تعالى في مارستان قد حبس فيه ، وقد جمع بين يديه حجارة ، فقال : من أنتم ؟ فقالوا : محبوك . فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا ، فقال : ما بالكم ادعيتم محبتي ! إن صدقتم فاصبروا على بلائي .
وللشبلي رحمه الله تعالى :
إن المحبة للرحمن أسكرني وهل رأيت محبا غير سكران .