بيان أن . الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ومذمتها لا يقدح في الرضا
اعلم أن الضعيف قد يظن أن نهي رسول الله : صلى الله عليه وسلم : عن الخروج من بلد ظهر به الطاعون يدل على النهي عن الخروج من بلد ظهرت فيه المعاصي لأن كل واحد منهما فرار من قضاء الله تعالى وذلك محال ، بل العلة في النهي عن مفارقة البلد بعد ظهور الطاعون أنه لو فتح هذا الباب لارتحل عنه الأصحاء وبقي فيه المرضى مهملين لا متعهد لهم فيهلكون هزالا وضرا ولذلك شبهه رسول الله : صلى الله عليه وسلم : في بعض الأخبار بالفرار من الزحف ولو كان ذلك للفرار من القضاء لما أذن لمن قارب البلدة في الانصراف وقد ذكرنا حكم ذلك في كتاب التوكل وإذا عرف المعنى ظهر أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ليس فرارا من القضاء ، بل من القضاء الفرار مما لا بد من الفرار منه .
وكذلك مذمة المواضع التي تدعو إلى المعاصي ، والأسباب التي تدعو إليها لأجل التنفير عن المعصية ليست مذمومة .
فما زال السلف الصالح يعتادون ذلك حتى اتفق جماعة على ذم بغداد وإظهارهم ذلك وطلب الفرار منها فقال قد طفت الشرق والغرب ، فما رأيت بلدا شرا من بغداد . قيل : وكيف قال : هو بلد تزدرى فيه نعمة الله ، وتستصغر فيه معصية الله . ابن المبارك
ولما قدم خراسان قيل له كيف رأيت بغداد قال : ما رأيت بها إلا شرطيا غضبان ، أو تاجرا لهفان ، أو قارئا حيران ولا ينبغي أن تظن أن ذلك من الغيبة ؛ لأنه لم يتعرض لشخص بعينه حتى يستضر ذلك الشخص به ، وإنما قصد بذلك تحذير الناس وكان يخرج إلى مكة ، وقد كان مقامه ببغداد يرقب استعداد القافلة ستة عشر يوما ، فكان يتصدق بستة عشر دينارا لكل يوم دينار كفارة لمقامه .