المقام الأول من المرابطة المشارطة .
اعلم أن مطلب المتعاملين في التجارات المشتركين في البضائع عند المحاسبة سلامة الربح وكما أن التاجر يستعين بشريكه فيسلم إليه المال حتى يتجر ، ثم يحاسبه ، فكذلك العقل هو التاجر في طريق الآخرة ، وإنما مطالبه وربحه تزكية النفس لأن بذلك فلاحها ، قال الله تعالى : قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وإنما فلاحها بالأعمال الصالحة .
والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة ؛ إذ يستعملها ويستسخرها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله وكما أن الشريك يصير خصما منازعا يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولا ، ويراقبه ثانيا ، ويحاسبه ثالثا ويعاقبه أو يعاتبه ، رابعا: فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولا ، فيوظف عليها الوظائف ، ويشرط عليها الشروط ، ويرشدها إلى طريق الفلاح ويحزم ، عليها الأمر بسلوك تلك الطرق ، ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال .
ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها ؛ فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى ، وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشهداء فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيرا من تدقيقه في أرباح الدنيا مع أنها محتقرة بالإضافة إلى نعيم العقبى ، ثم كيفما كانت فمصيرها إلى التصرم والانقضاء ولا خير في خير لا يدوم بل شر لا يدوم خير من خير لا يدوم ؛ لأن الشر الذي لا يدوم إذا انقطع بقي الفرح بانقطاعه دائما ، وقد انقضى الشر والخير الذي لا يدوم يبقى الأسف على انقطاعه دائما ، وقد انقضى الخير .
ولذلك قيل .
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا فحتم ، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة ، لا عوض لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد فانقباض هذه الأنفاس ضائعة أو مصروفة إلى ما يجلب الهلاك خسران عظيم هائل ، لا تسمح به نفس عاقل . على كل ذي حزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه
فإذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النفس ، كما أن التاجر عند تسليم البضاعة إلى الشريك العامل يفرغ المجلس لمشارطته .
فيقول للنفس ما لي بضاعة إلا العمر ، ومهما فني فقد فني رأس المال ، ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح ، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه ، وأنسأ في أجلي وأنعم علي به ، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوما واحدا حتى أعمل فيه صالحا فاحسبي أنك قد توفيت ثم قد رددت فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم ؛ فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة لا قيمة لها ، واعلمي يا نفس أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة وقد ورد في الخبر أنه ينشر للعبد بكل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة فيفتح له منها خزانة فيراها مملوءة نورا من حسناته التي عملها في تلك الساعة ، فيناله من الفرح والسرور والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسيلته عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الإحساس بألم النار ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة ، يفوح منها نتنها ، ويغشاه ظلامها ، وهي الساعة التي عصى فيها ، فيناله من الهول والفزع ما لو قسم على أهل الجنة لتنغص عليهم نعيمها ويفتح ، له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسوؤه ، وهي الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا فيتحسر ، على خلوها ، ويناله من غبن ذلك ما ينال القادر على الربح الكثير والملك الكبير إذا أهمله وتساهل فيه حتى فاته ، وناهيك به حسرة وغبنا ، وهكذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه : اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك ، ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك ، ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة ، فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك ، وتبقى عندك حسرة لا تفارقك ، وإن دخلت الجنة فألم الغبن وحسرته لا يطاق ، وإن كان دون ألم النار .
وقد قال بعضهم : هب أن المسيء قد عفي عنه ، أليس قد فاته ثواب المحسنين ، أشار به إلى الغبن والحسرة ، وقال الله تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن فهذه وصيته لنفسه في أوقاته .
ثم ليستأنف لها وصية في أعضائه السبعة ، وهي : العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، وتسليمها إليها فإنها رعايا خادمة لنفسه في هذه التجارة ، وبها تتم أعمال هذه التجارة ، وإن لجهنم سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم وإنما تتعين تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء فيوصيها بحفظها عن معاصيها . أما العين : فيحفظها عن النظر إلى وجه من ليس له بمحرم أو إلى عورة مسلم ، أو النظر إلى مسلم بعين الاحتقار ، بل عن كل فضول مستغنى عنه ؛ فإن الله تعالى يسأل عبده عن فضول النظر كما يسأله عن فضول الكلام ثم إذا صرفها عن هذا لم تقنع به حتى يشغلها بما فيه تجارتها وربحها ، وهو ما خلقت له من النظر إلى عجائب صنع الله بعين الاعتبار ، والنظر إلى أعمال الخير للاقتداء ، والنظر في كتاب الله وسنة رسوله ومطالعة كتب الحكمة للاتعاظ والاستفادة .
وهكذا ينبغي أن يفصل الأمر عليها في عضو عضو ، لا سيما اللسان والبطن .