فإن لم تزل فإن لم تزل ، فبالمواظبة على الصيام والكلام ، فإن لم تزل فبقلة المخالطة فإن لم تزل فاعلمي أن الله قد طبع على قلبك وأقفل عليه ، وأنه قد تراكمت ظلمة الذنوب على ظاهره وباطنه فوطني نفسك على النار ، فقد خلق الله الجنة وخلق لها أهلا وخلق النار وخلق لها أهلا ، فكل ميسر لما خلق له فإن لم يبق فيك مجال للوعظ فاقنطي من نفسك ، فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام نعوذ بالله من ذلك فلا سبيل لك إلى القنوط ولا سبيل لك إلى الرجاء مع انسداد طرق الخير عليك ، فإن ذلك اغترار وليس برجاء فانظري الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التي ابتليت بها وهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك ، فإن سمحت فمستقى الدمع من بحر الرحمة ، فقد بقي فيك موضع للرجاء ، فواظبي على النياحة والبكاء واستعيني ، بأرحم الراحمين واشتكي ، إلى أكرم الأكرمين وأديمي ، الاستغاثة ، ولا تملي طول الشكاية ، لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك فإن مصيبتك قد عظمت وبليتك قد تفاقمت وتماديك قد طال ، وقد انقطعت منك الحيل وراحت عنك العلل ، فلا مذهب ولا مطلب ولا مستغاث ولا مهرب ولا ملجأ ولا منجا إلا إلى مولاك فافزعي ، إليه بالتضرع واخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك وكثرة ذنوبك لأنه يرحم المتضرع الذليل ويغيث الطالب المتلهف ، ويجيب دعوة . والقنوط كبيرة من الكبائر
المضطر وقد أصبحت إليه اليوم مضطرة وإلى رحمته ، محتاجة وقد ضاقت بك السبل ، وانسدت عليك الطرق ، وانقطعت منك الحيل ، ولم تنجح فيك العظات ولم يكسرك التوبيخ فالمطلوب منه كريم والمسئول جواد والمستغاث به بر رءوف والرحمة واسعة والكرم فائض والعفو شامل وقولي : يا أرحم الراحمين يا رحمن يا رحيم يا حليم يا عظيم يا كريم أنا المذنب المصر أنا الجريء الذي لا أقلع أنا المتمادي الذي لا أستحي ، هذا مقام المتضرع المسكين والبائس الفقير والضعيف الحقير والهالك الغريق فعجل إغاثتي وفرجي وأرني آثار رحمتك وأذقني ، برد عفوك ومغفرتك وارزقنى قوة عظمتك يا أرحم الراحمين .
اقتداء بأبيك آدم عليه السلام فقد قال لما أهبط الله وهب بن منبه آدم من الجنة إلى الأرض مكث لا ترقأ له دمعة فاطلع الله عز وجل عليه في اليوم السابع وهو محزون كئيب كظيم منكس رأسه فأوحى الله تعالى إليه : يا آدم ما هذا الجهد الذي أرى بك قال : يا رب عظمت مصيبتي وأحاطت بي خطيئتي وأخرجت من ملكوت ربي فصرت في دار الهوان بعد الكرامة ، وفي دار الشقاء بعد السعادة ، وفي دار النصب بعد الراحة ، وفي دار البلاء بعد العافية ، وفي دار الزوال بعد القرار ، وفي دار الموت والفناء بعد الخلود والبقاء ، فكيف لا أبكي على خطيئتي ، فأوحى الله تعالى إليه يا آدم ألم أصطفك لنفسي ، وأحللتك دارى وخصصتك بكرامتي وحذرتك سخطي ، ألم أخلقك بيدي ونفخت فيك من روحي ، وأسجدت لك ملائكتي فعصيت أمري ونسيت عهدي وتعرضت لسخطي فوعزتي وجلالي لو ، ملأت الأرض رجالا كلهم مثلك يعبدونني ويسبحونني ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين ، فبكى آدم عليه السلام عند ذلك ثلاثمائة عام .
وكان عبيد الله البجلي كثير البكاء يقول في بكائه طول ليله إلهي : أنا الذي كلما طال عمري زادت ذنوبي ، أنا الذي كلما هممت بترك خطيئة عرضت لي شهوة أخرى ، واعبيداه خطيئة لم تبل وصاحبها في طلب أخرى ، واعبيداه إن كانت النار لك مقيلا ومأوى ، واعبيداه إن كانت المقامع برأسك تهيأ ، واعبيداه قضيت حوائج الطالبين ولعل حاجتك لا تقضى .
وقال منصور بن عمار سمعت في بعض الليالي بالكوفة عابدا يناجي ربه وهو يقول : يا رب وعزتك ما أرد بمعصيتك مخالفتك ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا لنظرك مستخف ، ولكن سولت لي نفسي وأعانني على ذلك شقوتي ، وغرني ، سترك المرخى علي فعصيتك بجهلي وخالفتك بفعلي ، فمن عذابك الآن من يستنقذني أو بحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عني واسوأتاه من الوقوف بين يديك غدا إذا قيل للمخفين : جوزوا وقيل للمثقلين : حطوا ، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط ويلي ؟ كلما كبرت سني كثرت ذنوبي ، ويلي ، كلما طال عمري كثرت معاصي فإلى متى أتوب وإلى متى أعود ؟ أما آن لي أن أستحيي من ربي .