بيان وثمرته . حقيقة الفكر
اعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة .
ومثاله أن من مال إلى العاجلة وآثر الحياة الدنيا وأراد أن يعرف أن الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة ، فله طريقان : أحدهما أن يسمع من غيره أن الآخرة أولى بالإيثار من الدنيا فيقلده ويصدقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر ، فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتمادا على مجرد قوله ، وهذا يسمى تقليدا ولا يسمى معرفة .
والطريق الثاني أن يعرف أن الأبقى أولى بالإيثار ، ثم يعرف أن الآخرة أبقى .
فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار ولا يمكن تحقق المعرفة بأن الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين .
فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يسمى تفكرا واعتبارا وتذكرا ونظرا وتأملا وتدبرا .
أما على معنى واحد ليس تحتها معان مختلفة . التدبر والتأمل والتفكر فعبارات مترادفة
وأما اسم التذكر والاعتبار والنظر فهي مختلفة المعاني وإن كان أصل المسمى واحدا ، كما أن اسم الصارم والمهند والسيف يتوارد على شيء واحد ولكن باعتبارات مختلفة .
فالصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع والمهند يدل عليه من حيث نسبته إلى موضعه . والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشعار بهذه الزوائد .
فكذلك الاعتبار ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يعبر منهما إلى معرفة ثالثة وإن لم يقع العبور ولم يمكن إلا الوقوف على المعرفتين فينطلق عليه اسم التذكر لا اسم الاعتبار وأما النظر والتفكر فيقع عليه من حيث إن فيه طلب معرفة ثالثة فمن ليس يطلب المعرفة الثالثة لا يسمى ناظرا فكل متفكر فهو متذكر ، وليس كل متذكر متفكرا .
وفائدة التذكار تكرار المعارف على القلب لترسخ ولا تنمحي عن القلب .
وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة .
فهذا هو . الفرق بين التذكر والتفكر
والمعارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت في القلب على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى ، فالمعرفة نتاج المعرفة .
فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتاج آخر .
وهكذا يتمادى النتاج وتتمادى العلوم ويتمادى الفكر إلى غير نهاية وإنما تنسد طريق زيادة المعارف بالموت .
أو بالعوائق وهذا ، لمن يقدر على استثمار العلوم ويهتدي إلى طريق التفكر ، وأما أكثر الناس فإنما منعوا الزيادة في العلوم لفقدهم رأس المال وهو المعارف التي بها تستثمر العلوم كالذي لا بضاعة له فإنه لا يقدر على الربح وقد يملك البضاعة ولكن لا يحسن صناعة التجارة فلا يربح شيئا ، فكذلك قد يكون معه من المعارف ما هو رأس مال العلوم ولكن ، ليس يحسن استعمالها وتأليفها وإيقاع الازدواج المفضي إلى النتاج فيها .
ومعرفة طريق الاستعمال والاستثمار تارة تكون بنور إلهي في القلب يحصل بالفطرة كما كان للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ، وذلك عزيز جدا ، وقد تكون بالتعلم والممارسة وهو الأكثر .
ثم المتفكر قد تحضره هذه المعارف وتحصل له الثمرة وهو لا يشعر بكيفية حصولها ولا يقدر على التعبير عنها لقلة ممارسته لصناعة التعبير في الإيراد .
فكم من إنسان يعلم أن الآخرة أولى بالإيثار علما حقيقيا ولو سئل عن سبب معرفته لم يقدر على إيراده والتعبير عنه مع أنه لم تحصل معرفته إلا عن المعرفتين السابقتين وهو أن الأبقى أولى بالإيثار ، وأن الآخرة أبقى من الدنيا فتحصل له معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار ، فرجع حاصل حقيقة التفكر إلى إحضار معرفتين للتوصل بهما إلى معرفة ثالثة .