ثم انظر إلى عجائب السفن كيف أمسكها الله تعالى على وجه الماء وسير ، فيها التجار ، وطلاب الأموال ، وغيرهم . وسخر لهم الفلك لتحمل أثقالهم ثم أرسل الرياح لتسوق السفن ثم عرف الملاحين موارد الرياح ، ومهابها ، ومواقيتها ولا يستقصى على الجملة في مجلدات ، وأعجب من ذلك كله ما هو أظهر من كل ظاهر ، وهو كيفية قطرة الماء ، وهو جسم رقيق لطيف سيال مشف متصل الأجزاء كأنه شيء واحد ، لطيف التركيب ، سريع القبول للتقطيع ، كأنه منفصل مسخر للتصرف قابل للانفصال والاتصال ، به حياة كل ما على وجه الأرض من حيوان ونبات عجائب صنع الله في البحر ثم لو شربها ومنع من إخراجها لبذل جميع خزائن الأرض وملك الدنيا في إخراجها فالعجب من الآدمي كيف يستعظم الدينار ، والدرهم ، ونفائس الجواهر ، ويغفل عن نعمة الله في شربة ماء إذا احتاج إلى شربها أو الاستفراغ ، عنها ، بذل جميع الدنيا فيها . فلو احتاج العبد إلى شربة ماء ومنع منها لبذل جميع خزائن الأرض وملك الدنيا في تحصيلها لو ملك ذلك ; ففيها متسع للفكر ومجال . فتأمل في عجائب المياه ، والأنهار والآبار ، والبحار ،
وكل ذلك شواهد متظاهرة ، وآيات متناصرة ، ناطقة بلسان حالها ، مفصحة عن جلال بارئها ، معربة عن كمال حكمته ، فيها منادية أرباب القلوب بنغماتها قائلة لكل ذي لب : أما تراني وترى صورتي وتركيبي .
وصفات ومنافعي واختلاف حالاتي وكثرة فوائدي ؟! أتظن أني كونت نفسي أو خلقني أحد من جنسي أو ما تستحي أن ؟! تنظر في كلمة مرقومة من ثلاثة أحرف ، فتقطع بأنها من صنعة آدمي عالم ، قادر ، مريد ، متكلم ، ثم تنظر إلى عجائب الخطوط الإلهية المرقومة على صفحات وجهي بالقلم الإلهي الذي لا تدرك الأبصار ذاته ، ولا حركته ، ولا اتصاله ، بمحل الخط ، ثم ينفك قلبك عن جلالة صانعه .
وتقول النطفة لأرباب السمع والقلب لا للذين هم عن السمع معزولون توهمني في ظلمة الأحشاء مغموسة في دم الحيض في ، الوقت الذي يظهر التخطيط والتصوير على وجهي فينفش النقاش حدقتي ، وأجفاني ، وجبهتي ، وخدي ، وشفتي ، فترى التقويس يظهر شيئا فشيئا على التدريج ، ولا ترى داخل النطفة نقاشا ، ولا خارجها ، ولا داخل الرحم ، ولا خارجه ، ولا خبر منها للأم ، ولا للأب ، ولا للنطفة ، ولا للرحم فما ، هذا النقاش بأعجب مما نشاهده ينقش بالقلم صورة عجيبة لو نظرت إليها مرة أو مرتين لتعلمته ؟! فهل تقدر على أن تتعلم هذا الجنس من النقش والتصوير الذي يعم ظاهر النطفة وباطنها ، وجميع أجزائها ، من غير ملامسة للنطفة ، ومن غير اتصال بها ، لا من داخل ، ولا من خارج ؟! فإن كنت لا تتعجب من هذه العجائب ، ولا تفهم بها أن الذي صور ونقش وقدر لا نظير له ولا يساويه نقاش ولا مصور ، كما أن نقشه وصنعه لا يساويه نقش وصنع ، فبين الفاعلين من المباينة والتباعد ما بين الفعلين ، فإن كنت لا تتعجب من هذا فتعجب من عدم تعجبك فإنه أعجب من كل عجب فإن الذي أعمى بصيرتك مع هذا الوضوح ومنعك من التبيين مع هذا البيان جدير بأن تتعجب منه فسبحان من هدى ، وأضل ، وأغوى ، وأرشد ، وأشقى ، وأسعد ، وفتح بصائر أحبابه ، فشاهدوه في جميع ذرات العالم وأجزائه وأعمى قلوب أعدائه ، واحتجب عنهم بعزه وعلائه فله الخلق ، والأمر ، والامتنان ، والفضل ، واللطف ، والقهر ، لا راد لحكمه ، ولا معقب لقضائه .