وقال أحمد بن حرب تتعجب الأرض من رجل يمهد مضجعه ويسوي فراشه للنوم فتقول : يا ابن آدم لم لا تذكر طول بلاك وما بيني وبينك شيء وقال ميمون بن مهران خرجت مع إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى ، ثم أقبل علي فقال : يا عمر بن عبد العزيز ميمون هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم ، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات ، واستحكم فيهم البلى ، وأصابت الهوام مقيلا في أبدانهم ، ثم بكى ، وقال : والله ما أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله .
وقال ثابت البناني دخلت المقابر فلما قصدت الخروج منها فإذا بصوت قائل يقول : يا ثابت لا يغرنك صموت أهلها فكم من نفس مغمومة فيها .
ويروى أن فاطمة بنت الحسن نظرت إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسين فغطت وجهها وقالت .
:
وكانوا رجاء ثم أمسوا رزية لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
وقيل : إنها ضربت على قبره فسطاطا ، واعتكفت عليه سنة .فلما مضت السنة قلعوا الفسطاط ، ودخلت المدينة فسمعوا صوتا من جانب البقيع هل وجدوا ما فقدوا ، فسمعوا من الجانب الآخر بل يئسوا فانقلبوا .
وقال أبو موسى التميمي توفيت امرأة الفرزدق فخرج في جنازتها وجوه البصرة وفيهم الحسن فقال له الحسن : يا أبا فراس ماذا أعددت لهذا اليوم ؟ فقال : شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين سنة ، فلما دفنت أقام الفرزدق على قبرها فقال .
:
أخاف وراء القبر إن لم تعافني أشد من القبر التهابا وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى النار مغلول القلادة أزرقا
قف بالقبور وقل على ساحاتها من منكم المغمور في ظلماتها
ومن المكرم منكم في قعرها قد ذاق برد الأمن من روعاتها
أما السكون لذي العيون فواحد لا يستبين الفضل في درجاتها
لو جاوبوك لأخبروك بألسن تصف الحقائق بعد من حالاتها
أما المطيع فنازل في روضة يفضي إلى ما شاء من دوحاتها
والمجرم الطاغي بها متقلب في حفرة يأوي إلى حياتها
وعقارب تسعى إليه فروحه في شدة التعذيب من لدغاتها
:
عدمت الحياة ولا نلتها إذا كنت في القبر قد ألحدوكا
فكيف أذوق طعم الكرى وأنت بيمناك قد وسدوكا
وقال مالك بن دينار مررت بالمقبرة فأنشأت أقول .
:
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
وأين المدل بسلطانه وأين المزكى إذا ما افتخر
:
تفانوا جميعا فما مخبر وماتوا جميعا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما ترى معتبر
وجد مكتوبا على قبر :
:
تناجيك أجداث وهن صموت وسكانها تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغة لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
:
أبا غانم أما ذراك فواسع وقبرك معمور الجوانب محكم
وما ينفع المقبور عمران قبره إذا كان فيه جسمه يتهدم
يمر أقاربي جنبات قبري كأن أقاربي لم يعرفوني
ذوو الميراث يقتسمون مالي وما يألون إن جحدوا ديوني
وقد أخذوا سهامهم وعاشوا فيا لله أسرع ما نسوني
إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس
فكيف تفرح بالدنيا ولذتها يا من يعد عليه اللفظ والنفس
أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا وأنت دهرك في اللذات منغمس
لا يرحم الموت ذا جهل لغرته ولا الذي كان منه العلم يقتبس
كم أخرس الموت في قبر وقفت به عن الجواب لسانا ما به خرس
قد كان قصرك معمورا له شرف فقبرك اليوم في الأجداث مندرس
:
وقفت على الأحبة حين صفت قبورهم كأفراس الرهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي رأت عيناي بينهم مكاني
قد قلت لما قال لي قائل صار لقمان إلى رمسه
فأين ما يوصف من طبه وحذقه في الماء مع جسه
هيهات لا يدفع عن غيره من كان لا يدفع عن نفسه
يا :
أيها الناس كان لي أمل قصر بي عن بلوغه الأجل
فليتق الله ربه رجل أمكنه في حياته العمل
ما أنا وحدي نقلت حيث ترى كل إلى مثله سينتقل
وليتحقق أنه لو عرض عليهم يوم من أيام عمره الذي هو مضيع له لكان ذلك أحب إليهم من الدنيا بحذافيرها لأنهم عرفوا قدر الأعمال وانكشفت لهم حقائق الأمور فإنما حسرتهم على يوم من العمر ليتدارك المقصر به تقصيره فيتخلص من العقاب وليستزيد ، الموفق به رتبته فيتضاعف له الثواب ، فإنهم إنما عرفوا قدر العمر بعد انقطاعه ، فحسرتهم على ساعة من الحياة وأنت قادر على تلك الساعة ، ولعلك تقدر على أمثالها ، ثم أنت مضيع لها فوطن نفسك على التحسر على تضييعهما عند خروج الأمر من الاختيار إذا لم تأخذ نصيبك من ساعتك على سبيل الابتدار ، فقد قال بعض الصالحين : رأيت أخا لي في الله فيما يرى النائم فقلت : يا فلان عشت الحمد لله رب العالمين قال ، لأن أقدر على أن أقولها يعني الحمد لله رب العالمين أحب إلي من الدنيا وما فيها ، ثم قال : ألم تر حيث كانوا يدفنونني فإن فلانا قد قام فصلى ركعتين لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها . والبصير هو الذي ينظر إلى غيره فيرى مكانه بين أظهرهم فيستعد للحوق بهم ، ويعلم أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يلحق بهم