الوجه الخامس: أن يقول: هب أنا نفرض تلازمهما، فالعلم بهذه القضية التي ألزمتموني نفيها، لأنفي معها الأولى، التي إثباتها أبين في العقول; من كون العالم، الذي هو عندكم جميع الأجسام وصفاتها، محدث وليس شيء منها بقديم، فالاحتجاج على بطلان هذه المقدمة، ببطلان هذا اللازم الذي [ ص: 394 ] هو أخفى منها، عكس الواجب; بل إن صح هذا التلازم، كان بعض قول الفلاسفة أصح من قولكم، يا معشر المناظرين لهم، والله تعالى لم يأمرنا أن ندفع الأقوال الباطلة، من أقوال الكفار وغيرها، بالأقوال الباطلة; بل أمرنا أن نكون قوامين بالقسط، شهداء لله، وأن لا نقول على الله إلا الحق، ولا نقفوا ما ليس لنا به علم، قال الله تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد [الأعراف: 29] وقال تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا [الأنعام: 152] وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله [المائدة: 8] وقال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 33] وقال تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 36] وقال تعالى: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق [الأعراف: 169] وقال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق [النساء: 171] وقال تعالى: ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم [محمد: 3] وقال تعالى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا [فاطر: 24] وقال تعالى: وبالحق أنزلناه وبالحق نزل [الإسراء: 105] وقال تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [البقرة: 190] وقال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ ص: 395 ] [النحل: 125] وليس من الأحسن أن يدفع الباطل بالباطل، أو أن نرد ما علمناه بالفطرة والضرورة لظننا أن المبطل يدفع به الحق. وقال تعالى: يجادلونك في الحق بعدما تبين [الأنفال: 6]، وقال تعالى: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم [آل عمران: 66] ومن أبين الحق ما كان معلوما بالفطرة، فكيف يجوز أن يجادل أحد فيه فيدفعه، وإن كان هذا مشتبها على أحد، كان ما ليس له به علم، وليس لأحد أن يحاج فيما ليس له به علم. وهذا أصل عظيم، ومن فذم الله من جادل في الحق بعد ما تبين، ومن حاج فيما ليس له به علم، فتدبر هذا، واحترس منه; فإنه من توقاه تخلصت له السنة من البدعة، والحق من الباطل، والحجج الصحيحة من الفاسدة، ونجا من ضلال المتفلسفين، وحيرة المتكلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أعظم ما ذم به السلف، والأئمة، أهل الكلام والجدل -وإن جادلوا الكفار وأهل البدع- أنهم يجادلون بالباطل في الحجج وفي الأحكام