الوجه الثاني- أن يقال: من المعلوم أن لفظ "الوجود" هو في أصل اللغة مصدر وجدت الشيء أجده وجودا، ومنه قوله تعالى: فلم تجدوا ماء [المائدة: 6 ] وقوله: حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده [النور: 39 ] وقوله: ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى [الضحى: 6، 7 ] وأمثال ذلك. فالموجود هو الذي يجده الواجد، فنسبة الموجود إلى الواجد كنسبة المعلوم إلى العلم والمذكور إلى الذكر، والمحس أو المحسوس إلى الحس، والمشهود إلى الشهود والمرئي إلى الرؤية. وهذا الاسم إنما يستحقه من يكون موجودا لواجد يجده؛ لكن هم في مثل هذا قد يقولون مشهود ومرئي، وموجود، ونحو ذلك: لما يكون بحيث يشهده الشاهد ويراه [ ص: 352 ] الرائي، ويجده الواجد؛ وإن تكلموا بذلك في الوقت الذي لا يكون فيه يشهده ويراه ويجده غيره. وقد لا يقولون هذا إلا في الوقت الذي يشهده الشاهد، ويراه الرائي، ويجده الواجد. وكثيرا ما يقصدون به المعنى الأول، فيطلقون الموجود على ما هو كائن ثابت لكونه بحيث يجده الواجد.
وكذلك لفظ "الوجود" يريدون به تارة المصدر الذي هو الأصل فيها، ويريدون به تارة المفعول: أي الموجود، كما في لفظ الخلق ونحوه، وكذلك لفظ الفعل؛ فإنهم يقولون: وجد هذا. وهذا صيغة فعل مبني للمفعول، فقد يريدون بذلك أنه وجده واجد، وقد يريدون بذلك أنه كان وحصل حتى صار بحيث يجده الواجد. ثم لما صار هذا المعنى هو الغالب في قصدهم صار لفظ الموجود عندهم والوجود يراد به الثبوت والكون والحصول من غير أن يستشعروا فيه وجود واجد له لا بالفعل ولا بالاستحقاق. فهذه ثلاث معان؛ لكن عزوف هذا المعنى عن الذهن إنما كان لما لم يقصد الناطق إلا نفس الكون والثبوت، وإن كان المعنى الآخر لازما له.
وحينئذ فنقول: اتفاق الناس على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى دليل على تلازمهما، فكما أن كل ما وجده واجد فله [ ص: 353 ] حصول في نفسه، فكما له حصول في نفسه فإنه بحيث يجده الواجد. ولا يجوز أن يسمى بالموجود ما يكون حيث لا يجده الواجد؛ لأن هذا سلب لمعنى اللفظ الذي به صح إطلاقه على هذا المسمى، كما أن اسم الحي والعالم والقادر لما أطلقوه على المسمى باعتبار كونه عالما وحيا وقادرا لم يجز أن تخرج هذه المعاني من هذه الأسماء؛ ولهذا كثيرا ممن أطلق هذا الاسم على الله تعالى لا يريد به إلا ما فيه من معنى الإضافة مثل قول الداعي: يا مقصود ! يا موجود ! وقول المذكر والداعي: يا من يجيب من قصده، ومن طلب الله صادقا وجده، وعلى هذا دل قوله: حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده [النور: 39 ] فإنما دل على هذا المعنى بلفظ الفعل الماضي، وهو قوله: ووجد الله عنده لكنه عداه إلى مفعولين. وإذا كان كذلك علم أنه يجب أن يكون بحيث يجده القاصد والطالب ويجده الواجدون، وهذا بعينه هو أنه بحيث يحسونه؛ فإن وجود الشيء وإحساسه متلازمان؛ بل هو هو، ولا يستعمل لفظ موجوده ووجدته فيما لا يحس ولا يمكن الإحساس به البتة.
وهذا معنى احتجاج المثبتة بهذا، كما قال القاضي أبو يعلى حيث قال في قوله الآخر- أثبت الجهة بعد أن كان [ ص: 354 ] ينفيها (ولأن المعتزلة والأشعرية يقولون ليس هو في جهة ولا خارجا منها، وقائل هذا بمثابة من قال: إثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون [وجود ] أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ) قال: (ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طلبته فلم أجده في موضع ما، وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم ) فبينوا أن المستقر في فطر الناس أن قولهم: طلبته فلم أجده في موضع ما. هو يدل على أنهم لم يحسوه في أين من الأيون، هذا بمنزلة قولهم: فإذا هو معدوم؛ لأن ضد المعدوم هو ما يكون حيث يجده الواجد، [ ص: 355 ] وقولنا بحيث يجده الواجد هو إشارة إلى الأين الذي يوجد فيه، فما لا أين له ولا حيث يمتنع أن يجده الواجد، وما امتنع أن يجده الواجد لم يكن موجودا بل كان معدوما، كما بين أن نفي "الأين" و "الحيث" ونحوهما من الظروف من جميع الوجوه كنفي المقارنة بالقبل والبعد، والمع؛ ومعلوم أن هذا لا ينطبق إلا على المعدوم، فكذلك الآخر. من نفى الجهة من
والذي يحقق هذا أنك لست تجد أحدا من أهل الفطر السليمة مع ذكائه وفطنته وجودة تصوره إلا إذا بينت له حقيقة قول السالبة قال: هذا لا شيء؛ ولهذا كثر كلام الناس فيهم بالخبر عنهم بأنهم معطلون، وأنهم أعدموه، وأمثال ذلك. وقد استقرأت أنا في طوائف من الآدميين فوجدت فطرهم كلهم على هذا.