الوجه التاسع والعشرون: أنه أورد من جهة المنازع أنه لا يعني بكونه مختصا بالحيز والجهة إلا أنه مباين عن العالم منفرد عنه ممتاز عنه، وكونه كذلك لا يقتضي وجودا آخر سوى ذات الله تعالى، فبطل قولكم لو كان في الجهة لكان مفتقرا إلى الغير، وهذا كلام جيد قوي كما قد بيناه فيما مضى أن وأن هؤلاء المنازعين له لا يقولون إن مع الباري موجودا هو داخل في مسمى نفسه أو موجودا مستغنيا عنه، فضلا عن أن يكون الرب مفتقرا إليه، بل كل ما سواه فإنه محتاج إليه وقد قرر لهم ذلك بالعالم، فقال: والذي يدل على صحة ما ذكرنا أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة، وكونه مختصا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردا عن البعض ممتازا عنه، وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا فلم لا يجوز مثله في كون الباري مختصا بالحيز والجهة؟! وهذا كلام سديد، وهو قياس من باب الأولى. الحيز لا خلاف بين الناس أنه قد يراد به ما ليس بخارج عن [ ص: 657 ] مسمى الذات
ومثل هذا القياس يستعمل في حق الله تعالى، وكذلك ورد به الكتاب والسنة، واستعمله سلف الأمة وأئمتها؛ كقوله تعالى: ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم [الروم 28] وقوله: أم له البنات ولكم البنون [الروم 39] وقوله: أصطفى البنات على البنين [الصافات 153] [ ص: 658 ] وقوله: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم [النحل 58-60] وقوله: ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون [النحل 62].
فإن الله أخبر أنهم إذا لم يرضوا لأنفسهم أن يكون مملوك أحدهم شريكه، ولم يرضوا لأنفسهم أن يكون لهم البنات فربهم أحق وأولى بأن ينزهوه عما لا يرضوه لأنفسهم للعلم بأنه أحق منهم بالتنزيه عما هو عيب ونقص عندهم، وهذا كما يقول المسلم للنصراني: كيف تنزه البتريك عن أن يكون له ولد وأنت تقول إن لله ولدا؟! وكذلك هنا [ ص: 659 ] هو ينزه العالم المتحيز أن يكون مفتقرا إلى شيء موجود، ولا ينزه الرب المعبود إذا كان فوق العرش أن يكون مفتقرا إلى شيء موجود، فإذا نزه بعض الموجودات عن شيء من ذلك كان تنزيهه الباري عنه أولى وأحرى. والخالق أحق بالغنى من المخلوق فتنزيهه عن الشريك والولد والحاجة، كل ذلك واجب له
ولم يجب عن هذا القياس والمثل الذي ضربوه له بالعالم بجواب صحيح، بل قال: قوله: الأجسام حاصلة في الأحياز، فنقول: غاية ما في هذا الباب أن يقال: الأجسام تحتاج إلى شيء آخر، وهذا غير ممتنع، أما [ ص: 660 ] كونه تعالى محتاجا في وجوده إلى شيء آخر فممتنع، فظهر الفرق.
فيقال له: أنت وجميع الخلق تسلمون أن كون العالم في حيز وجهة لا يستلزم احتياجه إلى حيز موجود مستغن عن العالم؛ فإن هذا لم يقله عاقل؛ فإنه يستلزم التسلسل، وإذا كان قد علم بالعقل والاتفاق أن العالم يستغني في تحيزه عن حيز موجود خارج عنه؛ فخالق العالم أولى أن يكون مستغنيا عن ذلك، ومن قال: إنه في تحيزه يكون مفتقرا إلى شيء موجود خارج عنه فلم يكفه أن عدله بالمخلوق، بل فضل المخلوق بالاستغناء عليه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.