الوجه السادس عشر: أن يقال: هب أن العلو بالجهة كمال، فأنتم تقولون: إن العلو بالقدرة أكمل منه. فإذا وافقكم موافق على هذا، وقال: علو القدرة أكمل من العلو بالجهة، وكل شيء موجود سواء كان حيزا أو جهة أو شيئا غير ذلك، فإن الله قادر عليه مدبر له قاهر له، فإذا قدر أنه تيامن أو تياسر أو نزل حتى يجعل شيئا أعلى منه بالجهة فهو أعلى من ذلك الشيء بالقدرة والربوبية والتدبير، وهو الذي جعله في تلك الجهة بمشيئته واختياره، وذلك الشيء مفتقر إلى الله عز وجل، والله غني عنه. وإذا كان كذلك لم يلزم أن يكون أكمل من الله في العلو، ولا أن يكون الرب مستكملا به، وأن الرب خرج عن صفة العلو [ ص: 183 ] مع لزومها لذلك، بل عندكم على ذلك والقهر له والتدبير، وذلك موصوف بأنه تحت حكم الله وأمره، فإذا شاء الرب أن يرفع جهته مع كونه مدبرا له لم يلزم أن يكون هذا نقصا على الأصول التي سلمتموها، كما يضربون به المثل فيقولون: إن الملك هو أعلى من رعيته، وإن كان مكان بعض رعيته فوق مكانه، ولهذا يقال لمجلسه: المجلس العالي والسامي. وإن كان مجالس بعض رعيته أعلى حيزا منه. الرب موصوف بالعلو الحقيقي
فإذا كان الأمر كذلك فقولك: " لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علو تلك الجهة أكمل من علو الباري". أتريد به أن علوه ليس إلا بالجهة فقط ليس هو قادرا على العالم مدبرا له؟ أم تريد أن علوه بالجهة مع ما له من العلو بالقدرة. فإن أردت الأولى فهو أعظم الكفر وأبطل الباطل ولا يقوله مسلم ولا عاقل يقر بالصانع، بل المؤمنون متفقون على أن الله قادر على العالم وليس العالم قادرا عليه. فإذا ضموا إلى ذلك أنه عال بالجهة والحيز، وفرض أن من العالم ما علا عليه بعض الأعيان بالجهة فقط بل لو علا عليه دائما بالجهة فقط مع علو الرب عليه بالقدرة لكان علو الرب أكمل من علو ذلك، فكيف إذا كان الرب هو الذي دبره وهو الذي علاه [ ص: 184 ] وبمشيئته وأمره يكون جميع شئونه.