الوجه التاسع عشر: أنك زعمت في " نهايتك " أن لم يعلم بالعقل، وإنما ثبت امتناع النقص عليه إذا أثبته بالإجماع. وقد تقدم بعض حكاية ألفاظه في ذلك وقال في مسألة " السمع والبصر " لما احتج أصحابه بأن ضد ذلك [ ص: 186 ] نقص، وقال في الأسولة على الحجة: " ولئن سلمنا أن ضد السمع والبصر نقص فلم قلتم: إن النقص على الله محال؟ قال: واعلم أن أجود ما قيل في بيان هذه المقدمة الإجماع. وعلى هذا تصير الدلالة السمعية، لأن الذي يدل على كون الإجماع حجة: إما الآيات وإما الأخبار. وإذا كان الأمر كذلك كان المستمسك في الابتداء بالآيات الدالة على كونه سميعا بصيرا أولى من ذكر هذه الطريقة الطويلة". امتناع النقص على الله
والإجماع لم ينعقد على أمور معينة، بل كل مسلم ينزه الله عما يعتقده نقصا.
وإذا كان هذا وأكثر المسلمين بل أكثر العالمين بل سلف الأمة وأئمتها يقولون بأن فالجهة فيها نزاع عظيم بين الناس، فإن كان هذا نقصا لم يكن قد انعقد الإجماع على نفيه. وأنت قد زعمت أن العقل ينفي عنه النقص فلا يكون معك حجة على نفي هذا الذي سميته نقصا لا من عقل ولا من سمع، ولا يصح قولك، وذلك محال". هذا لو كان هذا الذي سميته نقصا مستمرا، [ ص: 187 ] فكيف إذا كان فيه استكمال بالغير، فإنه من المعلوم أن الناقص المستكمل بغيره خير من الناقص الذي ليس مستكملا لا بنفسه ولا بغيره، وبهذا الوجه وأمثاله يتبين أن هؤلاء الله تعالى فوق العالم وعلى العرش، الجهمية مع ما هم عليه من التعطيل الذي زخرفوه بثوب التنزيه، فإنهم لا ينزهون الله تعالى عما يجب تنزيهه عنه من النقايص والعيوب، بل يصفونه بالفقر والحاجة، وبغير ذلك من الصفات كما بيناه في غير هذا الموضع، ويعترف أئمة كلامهم أن العقل لا يقتضي تنزيه الله عن النقص، وإنما يأخذون مقدمات سلمها لهم المسلمون فيحتجون بها على المسلمين في إبطال بعض دينهم، وهذا شأن المنافقين الذين يجادلون بكتاب الله تعالى كما في الحديث موقوفا على ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق بالقرآن والأئمة المضلين"، وكما في حديث عمر عن عبد الملك بن عمير [ ص: 188 ] عن ابن أبي ليلى، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " معاذ بن جبل إني أخاف عليكم ثلاثا وهي كائنة: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم".
ورواه ابن أبي حاتم والنجاد وغيرهما من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عن مجاهد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه ابن عمر، وهذا مشهور من حديث وسلم:" أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق [ ص: 189 ] بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فاتهموها على أنفسكم" كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وروي "من حابر" وحديث الأئمة المضلين محفوظ، وأصله في الصحيح، فروى " إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة" قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: زلة العالم، وحكم جائر، وهوى متبع" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ثوبان [ ص: 190 ] ويروى من حديث أخوف ما أخاف على أمتي بعدي الأئمة المضلون". أبي الدرداء وشداد ابن أوس.
وأما اللفظ الذي ذكرناه فهو محفوظ عن من حديث عمر بن الخطاب ابن المبارك وغيرهما، عن ووكيع سمعت مالك بن [ ص: 191 ] مغول أبا حصين يذكر عن زياد بن حدير قال: قال يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون. وفي مسند عمر بن الخطاب: ثنا الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، ديلم بن غزوان العبدي، ثنا ميمون [ ص: 192 ] الكردي، عن قال: إني لجالس تحت منبر أبي عثمان النهدي، وهو يخطب الناس، فقال في خطبته: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " عمر بن الخطاب، وفي رواية أخرى: " إني أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان" يتكلم [ ص: 193 ] بالحكمة ويعمل بالفجور"، ورواه من حديث عن مالك بن دينار، ميمون، ولفظه: " ورووا عن حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منافق عليم". أنه قال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة الذين يتأولون القرآن على غير تأويله. عمر بن الخطاب
[ ص: 194 ] ومن المشهور عن أنه قال: " إذا جادلكم أهل البدع بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أهل السنن أعلم بكتاب الله تعالى منهم ". فإن المنافق لا يعتقد وجوب اتباع الكتاب والسنة واتباع الإجماع، إذ ليس في باطن الأمر متدين باتباع النص والإجماع بل يأخذ من النص والإجماع ما يحتج به [ ص: 195 ] على المؤمنين في تنفيق نفاقه، وترويج غشه، وتلبيسه، وإذا كان كذلك فما يرفع الله به الدرجات كما رفع درجات عمر إبراهيم ويوسف عليهما السلام أن يحتج عليهم بالحجج الدافعة لهم وأن يكيدوا كيدا حسنا لدفع كيدهم وعدوانهم على الإيمان وأهله، فلا يمكنون من القدح في الإيمان بما يسلمه لهم المؤمنون، بل إذا عارضوا ما يقوله المؤمنون من الحق بحجج يسلم لهم المؤمنون بعض مقدماتها بين لهم أن تلك الحجج عليهم لا لهم، أو أنها على فساد قولهم وفعلهم أدل منها على ما عارضوه من الحق.
بل لو كان المتنازعان مبطلين: كأهل الكتاب والمشركين إذا تجادلوا أو تقاتلوا، كان المشروع نصر أهل الكتاب على المشركين بالقدر الذي يوافقهم عليه المؤمنون، إذا لم يكن في ذلك مفسدة تقاوم هذه المصلحة، فإن ذلك من الحق الذي يفرح به المؤمنون كما قال تعالى: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء [الروم: 1-5] فإنها نزلت كما استفاض في التفسير والمغازي والحديث في اقتتال الروم النصارى والفرس [ ص: 196 ] المجوس، كانت المجوس قد غلبت النصارى على أرض الشام وغيرها، فغلبت الروم وفرح بذلك مشركو قريش، لأن المجوس إليهم أقرب من النصارى؛ لأن كليهما لا كتاب له واغتم لذلك المؤمنون لأن النصارى إليهم أقرب لأنهم أهل كتاب، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم سوف تغلب فارس بعد ذلك في بضع سنين، وخاطرهم أبو بكر على هذا قبل تحريم ذلك، وظهرت الروم على فارس بعد ذلك.
فهؤلاء الجهمية قد سلم لهم المؤمنون أن الله غني عن كل ما سواه، وأنه أحد لا مثل له، فإنه سبحانه مقدس عن كل نقص، والجهمية في الحقيقة لا يعتقدون فيه هذا المعنى ولا هذا التنزيه ولا هذه الوحدانية، بل يثبتون له أمثالا ويصفونه بالحاجة وما تستلزم الحاجة، ولا ينزهونه عن النقائص والعيوب، وقد يصرحون بذلك تارة، وتارة بأنه ليس على ذلك دليل عقلي، فالاتحادية منهم كصاحب [ ص: 197 ] الفصوص وغيره يصرحون بأنه موصوف بكل ما يوصف به كل موجود من عيب ونقص وغير ذلك، وهؤلاء المتكلمون منهم كالرازي يصرحون بأن العقل لا ينفي عنه النقائص وبذلك يظهر أن تسميته لما عطله من الصفات " تقديسا " كتسمية [ ص: 198 ] الملاحدة تعطيلهم تقديسا. وقد علموا أن المسلمين يقولون إنه منزه عن النقص. فأخذوا هذا اللفظ يجحدون به ما يستحق من صفات الحمد، زاعمين أن ذلك نقص، كما زعم أن علوه على العرش نقص أو مستلزم للنقص، كما زعم أنه مستلزم للحاجة، وأنه مستلزم لعدم الوحدانية.
فتبين لهم صورة الحال وهو أن هذه الأمور التي يوافق المسلمون على نفيها، وإن كنتم لا تقيمون على نفيها حجة عقلية هي على فساد قولكم أدل منها على فساد قول من ينازعكم من أهل الإثبات وإن كان مخطئا في بعض ما يقوله، إذا كان خطؤه أقل من خطئكم وهو مع ضلاله عن بعض الهدى أقرب إليه منكم.