وأما الكلام على أصلهم الثاني، وهو أنه يمتنع أن يصير مؤثرا تاما بعد أن لم يكن فيمتنع أن يحدث شيئا، والمؤثر التام عندهم الذي تجب مقارنة الفعل له، فهذه أيضا باطلة من جانب النفي والإثبات كبطلان وجوب المقارنة التامة وامتناعها؛ فإنه يقال: إما أن يكون مؤثرا تاما في الأزل بجميع حوادث العالم أو لا يكون، فإن كان مؤثرا تاما وجب وجودها جميعها في الأزل، وهو خلاف المشهود المحسوس المعلوم لكل أحد، فإن لم يكن مؤثرا تاما في الأزل امتنع أن يصير بعد ذلك مؤثرا تاما فيجب أن لا يفعل شيئا؛ فيلزمهم إما قدم جميع الحوادث أو عدمها، وكلاهما معلوم الفساد؛ وإنما لزمهم ذلك لأجل المقدمتين اللتين بنوا عليهما قدم العالم. فإنهم قالوا لا يفعل إلا أن يكون بحيث تجب مقارنة الأثر له، ويمتنع أن يصير كذلك بعد أن لم يكن؛ لأنه يفضي إلى التسلسل، فيقال لهم: المؤثر في جميع هذه الحوادث كائنا ما كان إما أن يكون مؤثرا [ ص: 258 ] تاما بتفسيركم أو لا يكون؛ فإن كان كذلك وجب قدمها جميعها، وإن لم يكن كذلك وجب امتناعها جميعها؛ لامتناع تمام المؤثرية فيما بعد، واعتذارهم عن ذلك: بأن تمام المؤثرية في الفلك التاسع الذي بحركته تستعد القوابل لفيضان الوجود والكمال عليها لا يدفع هذا التناقض الظاهر؛ فإن مجموع هذه الأمور التي حصلت بها هذه الآثار هي المؤثر التام، فحدوث هذا المجموع إما أن يصدر عن مؤثر تام أو لا؛ فإن لم يصدر عن مؤثر تام موجب للمقارنة بطل قولهم إن الأثر لا يصدر إلا عن مؤثر تام تجب مقارنة الأثر له، فإن صدرت عن مؤثر تام تجب مقارنة الأثر له؛ فإن كان قديما لزم قدمها، وإن كان محدثا فالقول في علة حدوثه كالقول فيما تقدم؛ وهذا كلام قاطع [ ص: 259 ] وبرهان ساطع لا مندوحة عنه، وبغيره يتفطن لضلال هؤلاء الذين هم أكفر وأضل من عموم المشركين الذين هم بربهم يعدلون.
يوضح ذلك: وبالمجموع تتم المؤثرية، هذا حقيقة قولهم، فإذا كانت المؤثرية التامة تحدث شيئا بعد شيء كما تحدث عنها الآثار شيئا بعد شيء، فكل من المؤثرية وآثارها تحدث شيئا بعد شيء؛ لكن بعض أجزائها قديم: إما واجب الوجود بنفسه، وإما غير واجب الوجود بنفسه؛ بل بغيره، وبعض أجزائها حادث. وإذا كان كذلك فلابد لحدوث المؤثرية شيئا بعد شيء من سبب؛ إذ الحادث لا يحدث نفسه كالحركة الفلكية شيئا بعد شيء، لابد لحدوث مؤثريتها من سبب حادث، فإذا قيل هو التصورات المتجددة أو الشوق المتجدد أو ماذا عسى أن يقال، كان [ ص: 260 ] القول في حدوث هذا كالقول في حدوث ما حدث عنه، فكيف ما داروا كانوا مضطرين إلى حدوث حوادث في العالم، من غير حدوث شيء في العالم كالحركة الفلكية فإنها حادثة شيئا بعد شيء في العالم، وكحركة النفس المحركة لها عند من يقول بذلك منهم كان ذلك حادثا في العالم، وفي الممكنات من غير أن يكون في الممكنات سبب يقتضي حدوثه، ومن غير أن يحدث في الممكنات وفي العالم ما يحصل به مؤثرية ذلك الحادث؛ فإذا كان في العالم من الحوادث ما ليس له سبب تام يقتضي حدوثه من العالم علم أن الموجب التام للحدوث أمر خارج عن العالم، ولا يخرج عن العالم إلا الله سبحانه، يجوز أن يحدث الحوادث بعد أن لم تكن من غير أن يعاونه شيء على ذلك، هو المطلوب، واعلم أن الكلام هنا على وجهين: أن حقيقة ما يقولونه: إن المؤثرية التامة لكل حادث يحدث مستلزمة لحدوثه، فكلما دار الفلك حدث بدورانه من استعداد القابل وفيض الفاعل ما يستلزم الحادث بمجموعهما،
أحدهما: إفساد دليلهم على القدم، وهو قولهم: يمتنع حدوثه بعد أن لم يكن؛ لأن الحادث يقتضي شيئا، وحدوث / الحادث عن العلة التامة القديمة محال، فلا يكون العالم حادثا.
فقد تبين أن هذا منتقض بجميع الحوادث وبجميع ما يقال إن وجد سبب لها فإنها حادثة بعد أن لم تكن، ونفس حركة الفلك ظاهرة في النقض، فإن الحركة حوادث متوالية، وليس فوقها عندهم سبب حادث يوجبها، فهي حوادث عن علة قديمة عندهم، فقد جوزوا حدوث الحادث عن حركة تامة قديمة، فإن [ ص: 261 ] قالوا فوقها سبب حادث به تمت مؤثريتها كما يقوله من يجوز قيام الحوادث به منهم جاز عند هؤلاء حدوث العالم بمثل هذا. فعلى القولين تبطل الحجة.
وأما والموجب التام المستلزم لا يتخلف عنه شيء من موجباته ولوازمه فجميع الحوادث إن كان هو موجبا تاما مستلزما لها، لزم قدمها وهو خلاف المشاهدة، وإن لم يكن موجبا، تاما مستلزما لها فلابد من شيء يتم به موجبها، وذلك إن كان قديما لزم قدمها؛ لأن قدم الملزوم يوجب قدم اللازم، وإن كان محدثا كان من جملة الحوادث، فلابد له من شيء به يتم موجبه من غير الحوادث؛ لأن الكلام في جميع الحوادث وما يتم به الموجب من غير الحوادث لا يكون إلا قديما، ولو كان قديما لزم قدم الحوادث، فصار قدم العالم مستلزما لقدم الحوادث، وهو ممتنع، فقدم العالم ممتنع، فصار قدم العالم مستلزما لعدم قدمه وما اقتضى ثبوته نفيه كان ممتنعا ثبوته. الوجه الثاني: فهو الاستدلال بهذه على حدوث العالم وهو أن يقال: لو كان العالم قديما للزم أن يكون له موجب تام يستلزم موجبه قدمه عن غير موجب؛ فإنه يستلزم محالا؛ لأنه إن لم يكن تاما مستلزما أمكن وجوده، وأمكن أن لا يوجد، والممكن لا يوجد إلا بموجب تام مستلزم،
واعلم أنه كما يحتج بما في العالم من الحوادث فإنه يحتج [ ص: 262 ] بما فيه من الاختصاص والمقادير والصفات والأزواج المتنوعة كما قال: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات: 49]، فإن مبدع العالم إن كان علة موجبة بنفسه وهو واحد بسيط امتنع أن يصدر عنه أمور مختلفة على أصلهم، وإن لم يكن كذلك كان فاعلا بمشيئته واختياره -ما يختاره من المفعولات- وحينئذ فيمتنع أن يقال: الحركة هي الموجبة للحوادث، لأن الحركة إنما تحدث عنها مع بقية الحركات المختلفة، لأن حركات الأفلاك مختلفة، كما أن الأفلاك مختلفة.
ومعلوم أن حركة التاسع ليست الموجبة للحركة التي تخلفها في الثامن. فإن قيل إنها توجب الحركة التي ترادفها، إذ للثامن وغيره من الأفلاك حركة تخصه وحركة تابعة لحركة التاسع، فالحركات إذا مختلفة، والمتحركات مختلفة، والمعلولات المختلفة تستلزم عللا مختلفة، إذ العلة الواحدة من كل وجه لا توجب معلولين مختلفين، ويقال ذلك بحسب القوابل، لأن الكلام في القوابل المختلفة كالكلام في الحركات المختلفة، وهذه المختلفات من الفاعل والقوابل تكون صادرة عن علة واحدة فيقتضي الصدور عن فاعل حي ذي صفات ومشيئة يفعل بها، وهذا ضد ما يقولونه من أنه واحد لا يصدر عنه إلا واحد، فإن هذا الواحد الذي أثبتوه ونفوا عنه الصفة والقدر وسموا ذلك تركيبا وكثرة، قد تبرهن في غير هذا الموضع بالوجوه الكثيرة [ ص: 263 ] أنهم لا دليل لهم على هذه الوحدة، وأن ألفاظ حججهم ألفاظ فيها إجمال واشتراك كما قد بيناه في غير هذا الموضع؛ بل تبين بالبرهان أن هذه الوحدة يمتنع أن يوصف بها موجود، وأن وصف المبدع بها يقتضي تعطيله، ولهذا آل بهم الأمر إلى القول بأن الوجود كله واحد، ثم إن العالم فيه كثرة مشهودة، فإن كان الصادر عن الواحد واحدا من كل وجه، فلا يصدر عنه إلا واحد، ويلزمهم نفي الكثرة المشهودة في الوجود، وهو خلاف المشاهدة، وإن كان فيه ما يسمونه كثرة وتعددا أو تركيبا ونحو ذلك، فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد. فهم بين أمرين: إما إثبات الواحد ونفي جميع الصادر الثاني والثالث والرابع والخامس، وإما إثبات الكثرة في الصادر الأول، ثم في المبدع، يوضح هذا أن الفلك الثامن مكوكب كثير الكواكب، والتاسع فوقه أطلس، فمن أين جاءت هذه الكثرة العظيمة. وإذا قالوا إنه صدر عنه عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل العاشر، ثم صدر عنه ما تحت فلك القمر ففي هذا الكلام من التناقض والهذيان ما لا يروج على عقول الصبيان.
وقد كنت في أوائل معرفتي بأقوالهم بعد بلوغي بقريب وعندي من الرغبة في طلب العلم وتحقيق هذه الأمور ما أوجب أني كنت أرى في منامي ابن سيناء، وأنا أناظره في هذا المقام [ ص: 264 ] وأقول له: أنتم تزعمون أنكم عقلاء العالم وأذكياء الخلق، وتقولون مثل هذا الكلام الذي لا يقوله أضعف الناس عقلا، وأورد عليه مثل هذا الكلام فأقول: العقل الأول إن كان واحدا من جميع الجهات فلا يصدر عنه إلا واحد، لا يصدر عنه عقل ونفس وفلك، وإن كان فيه كثرة فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد، ولو قيل: تلك الكثرة هي أمور عدمية، فالأمور العدمية لا يصدر عنها وجود، ثم إذا جوزوا صدور الكثرة عن العقل الواحد باعتبار ما فليجوزوا صدورها عن المبدع الأول بمثل ذلك الاعتبار بدون هذه الواسطة كقولهم باعتبار وجوبه صدر عنه عقل، وباعتبار وجوده صدر عنه نفس، وباعتبار إمكانه صدر عنه فلك، فإن هذه الصفات وإن كانت أمورا ثبوتية فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد، وإن كانت إضافة أو سلبا أو مركبا منهما فالمبدع الأول عندهم يتصف بالسلب والإضافة والمركب منهما. فبطلان كلامهم في هذا المقام الذي هو أصل توحيدهم يظهر من وجوه كثيرة متعددة تبين فيها أن القوم من أجهل الخلق وأضلهم وأبعدهم عن معرفة الله وتوحيده، فإن عوام اليهود والنصارى الذين لم نوافقهم أعلم بالله من خواص هؤلاء الفلاسفة المبدلين الصابئين.