( فصل )
[ ص: 51 ] ومن ذلك : أن امرأة رفعت إلى رضي الله عنه قد زنت . فسألها عن ذلك ؟ فقالت : نعم يا أمير المؤمنين ، وأعادت ذلك وأيدته . فقال عمر بن الخطاب : إنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام . فدرأ عنها الحد . وهذا من دقيق الفراسة . علي
20 - ( فصل )
ومن قضايا رضي الله عنه : أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين متلطخة بدم ، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه . فسأله ؟ فقال : أنا قتلته ، قال : اذهبوا به فاقتلوه . فلما ذهب به أقبل رجل مسرعا ، فقال : يا قوم ، لا تعجلوا . ردوه إلى علي ، فردوه ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، ما هذا صاحبه ، أنا قتلته . فقال علي للأول : ما حملك على أن قلت : أنا قاتله ، ولم تقتله ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، وما أستطيع أن أصنع ؟ وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه ، وأنا واقف ، وفي يدي سكين ، وفيها أثر الدم ، وقد أخذت في خربة ؟ فخفت ألا يقبل مني ، وأن يكون قسامة ، فاعترفت بما لم أصنع ، واحتسبت نفسي عند الله . فقال علي : بئسما صنعت . فكيف كان حديثك ؟ قال : إني رجل قصاب ، خرجت إلى حانوتي في الغلس ، فذبحت بقرة وسلختها . فبينما أنا أسلخها والسكين في يدي أخذني البول . فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها ، فقضيت حاجتي ، وعدت أريد حانوتي ، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره ، فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي ، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي فأخذوني ، فقال الناس : هذا قتل هذا ، ما له قاتل سواه . فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي ، فاعترفت بما لم أجنه ، فقال علي للمقر الثاني : فأنت كيف كانت قصتك ؟ فقال أغواني إبليس ، فقتلت الرجل طمعا في ماله ، ثم سمعت حس العسس ، فخرجت من الخربة ، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف ، فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس ، فأخذوه وأتوك به . فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا ، فاعترفت بالحق . فقال علي : ما الحكم في ، هذا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا ، وقد قال الله تعالى : { للحسن ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } ، فخلى عنهما ، وأخرج دية القتيل من بيت المال . علي
وهذا - إن وقع صلحا برضا الأولياء - فلا إشكال ، وإن كان بغير رضاهم فالمعروف من أقوال الفقهاء : أن القصاص لا يسقط بذلك . لأن الجاني قد اعترف بما يوجبه ، ولم يوجد ما يسقطه ، فيتعين استيفاؤه . [ ص: 52 ] وبعد : فلحكم أمير المؤمنين وجه قوي .
وقد وقع نظير هذه القصة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنها ليست في القتل . قال : حدثنا النسائي ، حدثنا محمد بن يحيى بن كثير الحراني عمر بن حماد بن طلحة ، حدثنا أسباط ابن نصر عن ، عن سماك علقمة بن وائل ، عن أبيه { رضي الله عنه : ارجم الذي اعترف بالزنا . فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لا إنه قد تاب عمر } . أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح - وهي تعمد إلى المسجد - بمكروه على نفسها ، فاستغاثت برجل مر عليها ، وفر صاحبها . ثم مر عليها ذوو عدد . فاستغاثت بهم ، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به ، فأخذوه . وسبقهم الآخر ، فجاءوا به يقودونه إليها ، فقال : أنا الذي أغثتك ، وقد ذهب الآخر . فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه وقع عليها . وأخبر القوم : أنهم أدركوه يشتد ، فقال : إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني ، فقالت : كذب ، هو الذي وقع علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلقوا به فارجموه . فقام رجل ، فقال : لا ترجموه ، وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل ، واعترف . فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي وقع عليها ، والذي أغاثها ، والمرأة - فقال : أما أنت فقد غفر لك . وقال للذي أغاثها قولا حسنا . فقال
ورواه الإمام في مسنده " عن أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير حدثنا عن إسرائيل عن سماك علقمة بن وائل عن أبيه - فذكره . وفيه : { المدينة لقبل الله منهم } . فقالوا يا رسول الله ، ارجمه فقال : لقد تاب توبة لو تابها أهل
وقال أبو داود : ( ( باب في صاحب الحد يجيء فيقر " حدثنا محمد بن يحيى بن فارس عن الفريابي عن عن إسرائيل - فذكره بنحوه - وفيه : { سماك المدينة لقبلت منهم } . ألا ترجمه ؟ قال : لقد تاب توبة لو تابها أهل
وقال الترمذي : " باب ما جاء في " حدثنا المرأة إذا استكرهت على الزنا ، أنبأنا علي بن حجر معتمر بن سليمان الرقي عن عن الحجاج بن أرطاة عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال : { } . ولم يذكر أنه جعل لها مهرا . استكرهت امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد ، وأقامه على الذي أصابها
قال الترمذي : هذا حديث غريب . ليس إسناده بمتصل .
وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه . وسمعت محمدا يقول : عبد الجبار بن وائل بن حجر لم يسمع من أبيه ولا أدركه ، يقال : إنه ولد بعد موت أبيه بأشهر . والعمل على هذا عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم : [ ص: 53 ] أن ليس على المستكره حد .
ثم ساق حديث علقمة بن وائل عن أبيه من طريق محمد بن يحيى النيسابوري عن الفريابي عن عنه : ولفظه : { سماك المهاجرين ، فقالت : إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا ، فانطلقوا فأخذوا الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها . فأتوها به ، فقالت : نعم هو هذا ، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمر به ليرجم قام صاحبها الذي وقع عليها ، فقال ، يا رسول الله : أنا صاحبها . فقال لها : اذهبي فقد غفر الله لك .
وقال للرجل قولا حسنا : وقال للذي وقع عليها : ارجموه . وقال : لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل الله منهم } . وقال أن امرأة خرجت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد الصلاة فتلقاها رجل فتجللها ، فقضى حاجته منها . فصاحت ، فانطلق . ومر عليها رجل ، فقالت : إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا . ومرت بعصابة من الترمذي : هذا حديث غريب . وفي نسخة صحيح وعلقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه . وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل . وعبد الجبار لم يسمع من أبيه .
قلت : هذا الحديث إسناده على شرط ، ولعله تركه لهذا الاضطراب الذي وقع في متنه . والحديث يدور على مسلم . سماك
وقد اختلفت الرواية في رجم المعترف ، فقال أسباط بن نصر عن : " فأبى أن يرجمه " ورواية سماك أحمد وأبي داود ظاهرة في ذلك . ورواية الترمذي عن محمد بن يحيى صريحة في أنه رجمه . وهذا الاضطراب : إما من - وهو الظاهر - وإما ممن هو دونه . سماك
والأشبه : أنه لم يرجمه ، كما رواه أحمد والنسائي وأبو داود . ولم يذكروا غير ذلك ، ورواته حفظوا : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل رجمه فأبى ، وقال : لا " والذي قال : " إنه أمر برجمه " إما أن يكون جرى على المعتاد ، وإما أن يكون اشتبه عليه أمره برجم الذي جاءوا به أولا ، فوهم ، وقال : إنه أمر برجم المعترف . وأيضا فالذين رجمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزنا مضبوطون معدودون ، وقصصهم محفوظة معروفة . وهم ستة نفر : الغامدية ، وماعز ، وصاحبة العسيف ، واليهوديان .
والظاهر : أن راوي الرجم في هذه القصة استبعد أن يكون قد اعترف بالزنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجمه وعلم أن من هديه : رجم الزاني . فقال : " وأمر برجمه " ، فإن قيل : فحديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه ، الظاهر أنه في هذه القصة ، وقد ذكر " أنه أقام الحد على الذي أصابها " . [ ص: 54 ]
قيل : لا يدل لفظ الحديث على أن القصة واحدة ، وإن دل ، فقد قال : لم يسمعه البخاري من حجاج عبد الجبار ، ولا سمعه عبد الجبار من أبيه . حكاه عنه ، على أن في قول البيهقي : " إن البخاري عبد الجبار ولد بعد موت أبيه بأشهر " نظرا . فإن روى في صحيحه " عن مسلما عبد الجبار قال : " كنت غلاما لا أعقل صلاة أبي . .. " الحديث ، وليس في ترك رجمه - مع الاعتراف - ما يخالف أصول الشرع ، فإنه قد تاب بنص النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن سقط عنه في أصح القولين ، وقد أجمع عليه الناس في المحارب ، وهو تنبيه على من دونه ، وقد { تاب من حد قبل القدرة عليه ماعز من بين أيديهم : هلا تركتموه يتوب ، فيتوب الله عليه ؟ } . قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لما فر
فإن قيل : فكيف تصنعون بأمره برجم المتهم الذي ظهرت براءته ، ولم يقر ، ولم تقم عليه بينة ، بل بمجرد إقرار المرأة عليه ؟
قيل : هذا - لعمر الله - هو الذي يحتاج إلى جواب شاف ، فإن الرجل لم يقر ، بل قال : " أنا الذي أغثتها " .
فيقال - والله أعلم - : إن هذا مثل إقامة الحد باللوث الظاهر القوي ، فإنه أدرك وهو يشتد هاربا بين أيدي القوم ; واعترف بأنه كان عند المرأة ، وادعى أنه كان مغيثا لها ، وقالت المرأة : هو هذا ، وهذا لوث ظاهر .
وقد أقام الصحابة حد الزنا والخمر باللوث الذي هو نظير هذا أو قريب منه ; وهو الحمل ، والرائحة وجوز النبي صلى الله عليه وسلم لأولياء القتيل أن يقسموا على عين القاتل - وإن لم يروه - للوث ، ولم يدفعه إليهم . فلما انكشف الأمر بخلاف ذلك تعين الرجوع إليه ، كما لو شهد عليه أربعة : أنه زنى بامرأة ، فحكم برجمه ، فإذا هي عذراء ; أو ظهر كذبهم ، فإن الحد يدرأ عنه ، ولو حكم به ، فهذا ما ظهر في هذا الحديث الذي هو من مشكلات الأحاديث ، والله أعلم .
وقرأت في كتاب أقضية " رضي الله عنه - بغير إسناد - علي
" أن امرأة رفعت إلى ، [ ص: 55 ] وشهد عليها : أنها قد بغت ، وكان من قصتها أنها كانت يتيمة عند رجل ، وكان للرجل امرأة ; وكان كثير الغيبة عن أهله . فشبت اليتيمة ، فخافت المرأة أن يتزوجها زوجها ; فدعت نسوة حتى أمسكنها . فأخذت عذرتها بأصبعها ; فلما قدم زوجها من غيبته رمتها المرأة بالفاحشة ، وأقامت البينة من جاراتها اللواتي ساعدنها على ذلك . فسأل المرأة : ألك شهود ؟ قالت : نعم . هؤلاء جاراتي يشهدن بما أقول . فأحضرهن علي ، وأحضر السيف ، وطرحه بين يديه ، وفرق بينهن . فأدخل كل امرأة بيتا ; فدعا امرأة الرجل ، فأدارها بكل وجه ; فلم تزل عن قولها . فردها إلى البيت الذي كانت فيه . ودعا بإحدى الشهود ، وجثا على ركبتيه . علي
وقال : قد قالت المرأة ما قالت ، ورجعت إلى الحق ، وأعطيتها الأمان ; وإن لم تصدقيني لأفعلن ، ولأفعلن . فقالت : لا والله ، ما فعلت ، إلا أنها رأت جمالا وهيبة ، فخافت فساد زوجها ; فدعتنا وأمسكناها لها ، حتى افتضتها بأصبعها ; قال : الله أكبر ; أنا أول من فرق بين الشاهدين . فألزم المرأة حد القذف ; وألزم النسوة جميعا العقر ، وأمر الرجل أن يطلق المرأة ، وزوجه اليتيمة ، وساق إليها المهر من عنده . ثم حدثهم : أن علي دانيال كان يتيما ، لا أب له ولا أم ، وأن عجوزا من بني إسرائيل ضمته وكفلته ، وأن ملكا من ملوك بني إسرائيل كان له قاضيان . وكانت امرأة مهيبة جميلة ، تأتي الملك فتناصحه وتقص عليه ، وأن القاضيين عشقاها . فراوداها عن نفسها فأبت ، فشهدا عليها عند الملك أنها بغت . فدخل الملك من ذلك أمر عظيم فاشتد غمه ، وكان بها معجبا . فقال لهما : إن قولكما مقبول ، وأجلها ثلاثة أيام ، ثم ترجمونها . ونادى في البلد : احضروا رجم فلانة ، فأكثر الناس في ذلك ، وقال الملك لثقته : هل عندك من حيلة ؟ فقال : ماذا عسى عندي ؟ - يعني وقد شهد عليها القاضيان - فخرج ذلك الرجل في اليوم الثالث ، فإذا هو بغلمان يلعبون ، وفيهم دانيال ، وهو لا يعرفه ، فقال دانيال : يا معشر الصبيان تعالوا حتى أكون أنا الملك ، وأنت يا فلان المرأة العابدة ، وفلان وفلان القاضيين الشاهدين عليها . ثم جمع ترابا وجعل سيفا من قصب ، وقال للصبيان : خذوا بيد هذا القاضي إلى مكان كذا وكذا ففعلوا ، ثم دعا الآخر ، فقال له : قل الحق ، فإن لم تفعل قتلتك ، بأي شيء تشهد ؟ - والوزير واقف ينظر ويسمع - فقال أشهد أنها بغت ، قال : متى ؟ قال : في يوم كذا وكذا . قال : مع من ؟ قال : مع فلان بن فلان . قال : في أي مكان ؟ قال في مكان كذا وكذا ، فقال : ردوه إلى مكانه ، وهاتوا الآخر . فردوه إلى مكانه ، وجاءوا بالآخر ، فقال : بأي شيء تشهد ؟ قال : بغت . قال : متى ؟ قال : يوم كذا وكذا ، قال : مع من ؟ قال : مع فلان بن فلان ، قال : [ ص: 56 ] وأين ؟ قال : في موضع كذا وكذا ، فخالف صاحبه ، فقال دانيال : الله أكبر ، شهدا عليها والله بالزور ، فاحضروا قتلهما . فذهب الثقة إلى الملك مبادرا ، فأخبره الخبر ، فبعث إلى القاضيين ، ففرق بينهما . وفعل بهما ما فعل دانيال . فاختلفا كما اختلف الغلامان . فنادى الملك في الناس : أن احضروا قتل القاضيين ، فقتلهما .