48 - ( فصل ) 
الطريق الثالث أن يحكم باليد مع يمين صاحبها  ، كما إذا ادعى عليه عينا في يده ، فأنكر ، فسأل إحلافه  ، فإنه يحلف ، وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد . 
ولهذا شرعت اليمين في جهته ، فإن اليمين تشرع في جنبة أقوى المتداعيين ، هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة ، فإن كذبتها لم يلتفت إليها ، وعلم أنها يد مبطلة . وذلك : كما لو رأى إنسانا يعدو وبيده عمامة ، وعلى رأسه عمامة ، وآخر خلفه حاسر الرأس ، ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس  ، فإنا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر ، ولا يلتفت إلى تلك اليد . 
ويجب العمل قطعا بهذه القرائن ، فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد ، بل اليد هنا لا تفيد ظنا ألبتة ، فكيف تقدم على ما هو مقطوع به ، أو كالمقطوع به ؟ 
وكذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مسرجة ولجامه وآلة ركوبه ، وليست من مراكبه في العادة ،  [ ص: 100 ] ووراءه أمير ماش ، أو من ليس من عادته المشي  ، فإنا نقطع بأن يده مبطلة . 
وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه ، وليس من أهلها كما إذا رئي معه القماش والجواهر ونحوها ، مما ليس من شأنه ، فادعى أنه ملكه وفي يده : لم يلتفت إلى تلك اليد . 
وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع ، أو تكاد أنها يد مبطلة ، لا حكم لها ، ولا يقضى بها . فإذا قضينا باليد ، فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها . 
وإذا كانت اليد ترفع بالنكول ، وبالشاهد الواحد مع اليمين ، وباليمين المردودة ، فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى . فهذا مما لا يرتاب فيه : أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، ووضعه بين عباده . فالأيدي ثلاث    : 
الأولى : يد يعلم أنها مبطلة ظالمة ، فلا يلتفت إليها . 
الثانية : يد يعلم أنها محقة عادلة ، فلا تسمع الدعوى عليها ، كمن تشاهد في يده دار يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب ، مع عدم سطوته وشوكته ، فجاء من ادعى أنه غصبها منه ، واستولى عليها بغير حق - وهو يشاهده في هذه المدة الطويلة ويمكنه طلب خلاصها منه ، ولا يفعل ذلك    - فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي ، وأن يد المدعى عليه محقة . هذا مذهب أهل المدينة   مالك  وأصحابه ، وهو الصواب . 
قالوا : إذا رأينا رجلا حائزا لدار متصرفا فيها مدة سنين طويلة بالهدم والبناء ، والإجارة والعمارة ، وهو ينسبها إلى نفسه ، ويضيفها إلى ملكه ، وإنسان حاضر يراه ، ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ، ولا يذكر أن له فيها حقا ، ولا مانع يمنعه من مطالبته : من خوف سلطان ، أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق ، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ، ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك ، مما تتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه ، بل كان عريا عن ذلك أجمع ، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه ، ويريد أن يقيم بينة على ذلك ، فدعواه غير مسموعة أصلا ، فضلا عن يمينه . 
وتبقى الدار في يد حائزها لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة .  [ ص: 101 ] قال تعالى { وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين    } وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره . 
وكذلك يؤخذ بهذا في هذا الموضع ، وليس ذلك خلاف العادات فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر . 
قالوا : وإذا اعتبرنا طول المدة فقد حددها ابن القاسم   وابن وهب  وابن عبد الحكم  وأصبغ  بعشر سنين . 
وربما احتج لهم بحديث يذكر عن  سعيد بن المسيب  ،  وزيد بن أسلم    : أن رسول الله قال : { من حاز شيئا عشر سنين فهو له   } وهذا لا يثبت . وأما  مالك  رحمه الله : فلم يوقت في ذلك حدا ، ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام . 
الثالثة : يد يحتمل أن تكون محقة ، وأن تكون مبطلة ، فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها ، ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها . فالشارع لا يغير يدا شهد العرف والحس بكونها مبطلة ، ولا يهدر يدا شهد العرف بكونها محقة ، واليد المحتملة : يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب ، وهو الأقوى فالأقوى ، والله أعلم . 
فالشارع لا يعين مبطلا ، ولا يعين على محق ، ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها . 
				
						
						
