79 - ( فصل )
الطريق السابع عشر الحكم بشهادة الكافر : هذه المسألة لها صورتان : إحداهما : بعضهم على بعض . شهادة الكفار
والثانية : شهادتهم على المسلمين .
فأما المسألة الأولى ، فقد اختلف فيها الناس قديما وحديثا ، فقال : حدثنا حنبل قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن الشعبي ، قال : " تجوز شهادة اليهودي على النصراني " .
قال : وسمعت حنبل قال : تجوز شهادة بعضهم على بعض ، فأما على المسلمين فلا تجوز ، وتجوز شهادة المسلم عليهم . أبا عبد الله
وقال في رواية أبي داود والمروذي وحرب والميموني وأبي الحارث وجعفر بن محمد ويعقوب بن بختان وأبي طالب - واحتج في روايته بقوله تعالى : { فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء } - وصالح ابنه ، وأبي حامد الخفاف ، وإسماعيل بن سعيد الشالنجي ، ، وإسحاق بن منصور ومهنا بن يحيى ، فقال له مهنا : أرأيت إن عدلوا ؟ قال : فمن يعدلهم ؟ العلج منهم ؟ وأفضلهم [ ص: 149 ] يشرب الخمر ويأكل الخنزير ، فكيف يعدل ؟
فنص في رواية هؤلاء : أنه لا تجوز شهادة بعضهم على بعض ، ولا على غيرهم ألبتة ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : { ممن ترضون من الشهداء } وليسوا ممن نرضاه .
قال : فقد روى هؤلاء النفر - وهم قريب من عشرين نفسا - كلهم عن الخلال ، خلاف ما قال أبي عبد الله . حنبل
قال : نظرت في أصل : أخبرني حنبل عبد الله ، عن أبيه بمثل ما أخبرني عصمة عن ، ولا شك أن حنبل توهم ذلك ، لعله أراد : أن حنبلا قال : لا تجوز ، فغلط فقال : تجوز ، وقد أخبرنا أبا عبد الله عبد الله عن أبيه بهذا الحديث .
وقال عبد الله : قال أبي : لا تجوز ، وقال أبي : حدثنا عن وكيع سفيان ، عن حصين ، عن الشعبي قال : تجوز شهادة بعضهم على بعض .
قال عبد الله : قال أبي : لا تجوز ; لأن الله تعالى قال : { ممن ترضون من الشهداء } وليسوا هم ممن نرضى ، فصح الخطأ هاهنا من . حنبل
وقد اختلفوا على الشعبي أيضا ، وعلى سفيان ، وعلى ، في رواية هذا الحديث ، وما قال وكيع ، فما اختلف عنه ألبتة إلا ما غلط أبو عبد الله بلا شك ، لأن حنبل مذهبه في شهادة أهل الكتاب لا يجيزها ألبتة ، ويحتج بقوله تعالى : { أبا عبد الله ممن ترضون من الشهداء } ، وأنهم ليسوا بعدول .
وقد قال الله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ، واحتج بأنه تكون بينهم أحكام وأموال ، فكيف يحكم بشهادة غير عدل ؟ واحتج بقوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } .
وبالغ في إنكار رواية الخلال ، ولم يثبتها رواية ، وأثبتها غيره من أصحابنا ، وجعلوا المسألة على روايتين . حنبل
قالوا : وعلى رواية الجواز ، فهل يعتبر اتحاد المسألة ؟ فيه وجهان ، ونصروا كلهم عدم الجواز إلا شيخنا فإنه اختار الجواز .
قال : وصح عن ابن حزم : أنه أجاز شهادة نصراني على مجوسي ، أو مجوسي على نصراني . عمر بن عبد العزيز
وصح عن أنه قال : تجوز شهادة النصراني على اليهودي ، وعلى النصراني ، كلهم أهل شرك . [ ص: 150 ] وصح هذا أيضا عن حماد بن أبي سليمان الشعبي وشريح . وذكر وإبراهيم النخعي من طريق أبو بكر بن أبي شيبة إبراهيم الصائغ ، قال : سألت - عن شهادة نافعا مولى ابن عمر أهل الكتاب بعضهم على بعض ، فقال : تجوز .
وقال عن عبد الرزاق : سألت معمر الزهري عن شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض ، فقال : تجوز ، وهو قول ، سفيان الثوري ، ووكيع وأصحابه . وأبي حنيفة
وذكر أبو عبيد عن ، عن قتادة قال : " تجوز شهادة النصراني على النصراني " . علي بن أبي طالب
وذكر أيضا عن الزهري : تجوز شهادة النصراني على النصراني ، واليهودي على اليهودي ، ولا تجوز شهادة أحدهما على الآخر .
وروى ، عن ابن أبي شيبة ، عن ابن عيينة ، عن يونس الحسن قال : إذا اختلفت الملل لم تجز شهادة بعضهم على بعض .
وكذلك قال : لا تجوز شهادة ملة على غير ملتها إلا المسلمين . وهذا أحد الروايات عن عطاء الشعبي .
والثاني : الجواز .
والثالث : المنع .
كذلك قال : لا تجوز شهادة ملة إلا على ملتها : اليهودي على اليهودي ، والنصراني على النصراني . النخعي
وقال : تجوز شهادة الطبيب الكافر حتى على المسلم للحاجة . مالك
قال القائلون بشهادتهم : قال الله تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } ، فأخبر أن منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال ، ولا ريب أن يكون مثل هذا أمينا على قرابته ذوي مذهبه أولى .
قالوا : وقال تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } فأثبت لهم الولاية على بعضهم بعضا ، وهي أعلى رتبة من الشهادة ، وغاية الشهادة : أن تشبه بها ، وإذا كان له أن يزوج ابنته وأخته ، ويلي مال ولده ، فقبول شهادته عليه أولى وأحرى .
قالوا : وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادتهم في الحدود .
قال : حدثنا أبو خيثمة ، عن حفص بن غياث ، عن مجالد بن سعيد الشعبي ، عن رضي الله عنهما : { جابر بن عبد الله اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتوني بأربعة منكم يشهدون ، قالوا : وكيف ؟ } الحديث . أن
والذي في " الصحيح " : { } وذكر الحديث ، فأقام الحد بقولهم ، ولم يسأل اليهودي واليهودية ، ولا طلب اعترافهما وإقرارهما ، وذلك ظاهر في سياق القصة بجميع طرقها ، ليس في شيء منها ألبتة أنه رجمهما بإقرارهما ، ولما أقر مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد حمم ، فقال : ما شأن هذا ؟ [ ص: 151 ] فقالوا : زنى ، فقال : ما تجدون في كتابكم ؟ ماعز بن مالك والغامدية : اتفقت جميع طرق الحديثين على ذلك الإقرار .
قالوا : وروى عن نافع في هذه القصة { ابن عمر أنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم ; فقال : ما باله ؟ قالوا زنى ، قال : ائتوني بأربعة منكم يشهدون عليه } .
قالوا : وقد أجاز الله سبحانه شهادة الكافر على المسلمين في السفر في الوصية للحاجة ; ومعلوم أن حاجتهم إلى قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم بكثير من حاجة المسلمين إلى قبول شهادتهم عليهم ; فإن الكفار يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملات ; من المداينات ، وعقود المعاوضات وغيرها ; وتقع بينهم الجنايات ; وعدوان بعضهم على بعض ; ولا يحضرهم في الغالب مسلم ، ويتحاكمون إلينا ، فلو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض لأدى ذلك إلى تظالمهم ; وضياع حقوقهم ، وفي ذلك فساد كبير ; فإن الحاجة إلى قبول شهادتهم على المسلمين في السفر من الحاجة إلى قبول شهادة بعضهم على بعض في السفر والحضر .
قالوا : والكافر قد يكون عدلا في دينه بين قومه ، صادق اللهجة عندهم ، فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم إذا ارتضوه ، وقد رأينا كثيرا من الكفار يصدق في حديثه ، ويؤدي أمانته ، بحيث يشار إليه في ذلك ويشتهر به بين قومه ، وبين المسلمين ، بحيث يسكن القلب إلى صدقه ، وقبول خبره وشهادته ما لا يسكن إلى كثير من المنتسبين إلى الإسلام ، وقد أباح الله سبحانه معاملتهم ، وأكل طعامهم ; وحل نسائهم ، وذلك يستلزم الرجوع إلى أخبارهم قطعا ، فإذا جاز لنا الاعتماد على خبرهم ، [ ص: 152 ] فيما يتعلق بنا من الأعيان التي تحل وتحرم ، فلأن نرجع إلى أخبارهم بالنسبة لما يتعلق بهم من ذلك أولى وأحرى ، فإن قلتم : هذا للحاجة ، قيل : وذلك أشد حاجة .
قالوا : وقد أمر الله سبحانه بالحكم بينهم إما إيجابا وإما تخييرا ، والحكم إما بالإقرار وإما بالبينة ، ومعلوم أنهم مع الإقرار لا يرفعون إلينا ، ولا يحتاجون إلى الحكم غالبا ، وإنما يحتاجون إلى الحكم عند التجاحد وإقامة البينة ، وهم في الغالب لا تحضرهم البينة من المسلمين ، ومعلوم أن الحكم بينهم مقصوده العدل ، وإيصال كل ذي حق منهم إلى حقه ، فإذا غلب على الظن صدق مدعيهم بمن يحضره من الشهود الذي يرتضونهم فيما بينهم ، ولا سيما إذا كثروا ، فالحكم بشهادتهم أقوى من الحكم بمجرد نكول ناكلهم أو يمينه ، وهذا ظاهر جدا .
قالوا : وأما قوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقوله : { ممن ترضون من الشهداء } وقوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } : فهذا إنما هو في الحكم بين المسلمين ، فإن السياق كله في ذلك ، فإن الله سبحانه وتعالى قال : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } - إلى قوله تعالى - { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وكذلك قال في آية المداينة : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } - إلى قوله - { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } فلا تعرض في شيء من ذلك لحكم أهل الكتاب ألبتة . وأما قوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } فهذا إما أن يراد به : العداوة التي بين اليهود والنصارى ، أو يراد به العداوة التي بين فرقهم ، وإن كانوا ملة واحدة ، وهذا لا يمنع قبول شهادة بعضهم على بعض ، فإنها عداوة دينية ، فهي كالعداوة التي بين فرق هذه الأمة ، وإلباسهم شيعا ، وإذاقة بعضهم بأس بعض .
واحتج بأن من كذب على الله فهو إلى أن يكذب على مثله أقرب ، فيقال : وجميع أهل البدع قد كذبوا على الله ورسوله ، الشافعي والخوارج من أصدق الناس لهجة ، وقد كذبوا على الله ورسوله ، وكذلك القدرية والمعتزلة ، وهم يظنون أنهم صادقون غير كاذبين ، فهم متدينون بهذا الكذب ، ويظنونه من أصدق الصدق .
واحتج المانعون أيضا بأن في قبول شهادتهم إكراما لهم ، ورفعا لمنزلتهم وقدرهم ، ورذيلة الكفر تنفي ذلك . [ ص: 153 ]
قال الآخرون : رذيلة الكفر لم تمنع قبول قولهم على المسلمين للحاجة ، بنص القرآن ، ولم تمنع ولاية بعضهم على بعض ، وعرافة بعضهم على بعض وكون بعضهم حاكما وقاضيا عليهم ، فلا نمنع أن يكون بعضهم شاهدا على بعض ، وليس في هذا تكريم لهم ، ولا رفع لأقدارهم ، وإنما هو دفع لشرهم بعضهم عن بعض ، وإيصال أهل الحقوق منهم إلى حقوقهم بقول من يرضونه ، وهذا من تمام مصالحهم التي لا غنى لهم عنها . ومما يوضح ذلك ، أنهم إذا رضوا بأن نحكم بينهم ، ورضوا بقبول قول بعضهم على بعض ، فألزمناهم بما رضوا به لم يكن ذلك مخالفا لحكم الله ورسوله ، فإنه لا بد أن يكون الشاهد بينهم ممن يثقون به ، فلو كان معروفا بالكذب وشهادة الزور لم نقبله ، ولم نلزمهم بشهادته .