وقال في الفنون " : جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية : أنه هو الحزم ، ولا يخلو من القول به إمام . ابن عقيل
فقال شافعي : لا سياسة إلا ما وافق الشرع . فقال : السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي ، فإن أردت بقولك : " إلا ما وافق الشرع " أي لم يخالف ما نطق به الشرع : فصحيح . ابن عقيل
وإن أردت : لا سياسة إلا ما نطق به الشرع : فغلط ، وتغليط للصحابة فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف . عثمان
[ ص: 13 ] فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة ، وتحريق رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد وقال : علي
لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
ونفي رضي الله عنه عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج . ا هـ . وهذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك ، ومعترك صعب ، فرط فيه طائفة ، فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرءوا أهل الفجور على الفساد ، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، محتاجة إلى غيرها ، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له ، وعطلوها ، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع .ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم ، والذي أوجب لهم ذلك : نوع تقصير في معرفة الشريعة ، وتقصير في معرفة الواقع ، وتنزيل أحدهما على الآخر ، فلما رأى ولاة الأمور ذلك ، وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة ، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا ، وفسادا عريضا فتفاقم الأمر ، وتعذر استدراكه ، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك ، واستنقاذها من تلك المهالك .
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة ، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله ، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله ، وأنزل به كتابه .
فإن الله سبحانه أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات .
فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان ، فثم شرع الله ودينه ، والله سبحانه أعلم وأحكم ، وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة ، وأبين أمارة .
فلا يجعله منها ، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها ، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق ، أن مقصوده إقامة العدل بين عباده ، وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ، وليست مخالفة له . [ ص: 14 ] فلا يقال : إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ، بل هي موافقة لما جاء به ، بل هي جزء من أجزائه ، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم ، وإنما هي عدل الله ورسوله ، ظهر بهذه الأمارات والعلامات .
{ } ، فمن أطلق كل متهم وحلفه وخلى سبيله - مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ، وكثرة سرقاته ، وقال : لا آخذه إلا بشاهدي عدل - فقوله مخالف للسياسة الشرعية . فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة ، وعاقب في تهمة ، لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم
{ } { وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الغال من الغنيمة سهمه ، وحرق متاعه هو وخلفاؤه من بعده ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية } ، فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع . { } . { وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة } { وأضعف الغرم على سارق ما لا قطع فيه ، وشرع فيه جلدات ، نكالا وتأديبا وأضعف الغرم على كاتم الضالة عن صاحبها } . [ ص: 15 ]
وقال في تارك الزكاة : { } . { إنا آخذوها منه وشطر ماله ، عزمة من عزمات ربنا وأمر بكسر دنان الخمر } . { } . وأمر بكسر القدور التي طبخ فيها اللحم الحرام . ثم نسخ عنهم الكسر ، وأمرهم بالغسل
{ وأمر بتحريق الثوبين المعصفرين ، فسجرهما في التنور عبد الله بن عمرو } . { } . { وأمر المرأة التي لعنت ناقتها أن تخلي سبيلها } ، ولم ينسخ ذلك ، ولم يجعله حدا لا بد منه بل [ ص: 16 ] هو بحسب المصلحة إلى رأي الإمام ، وكذلك زاد وأمر بقتل شارب الخمر بعد الثالثة والرابعة رضي الله عنه عنه في الحد عن الأربعين ونفى فيها . عمر
{ } { وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الذي كان يتهم بأم ولده ، فلما تبين أنه خصي تركه } وهذا يدل على جواز أخذ المتهم إذا قامت قرينة التهمة . وأمر بإمساك اليهودي الذي أومأت الجارية برأسها أنه رضخه بين حجرين فأخذ فأقر فرضخ رأسه
والظاهر : أنه لم تقم عليه بينة ، ولا أقر اختيارا منه للقتل ، وإنما هدد أو ضرب فأقر ، وكذلك العرنيون فعل بهم ما فعل بناء على شاهد الحال ولم يطلب بينة بما فعلوا ، ولا وقف الأمر على إقرارهم .