96 - ( فصل ) 
وأما حديث  زيد بن أرقم    - في قصة  علي  في الولد الذي ادعاه الثلاثة والإقراع بينهما : فهو حديث مضطرب جدا ، كما تقدم ذكره . 
وقد قال علي بن سعيد    : سألت  أحمد بن حنبل  عن هذا الحديث ؟ فقال : هذا حديث منكر ، لا أدري ما هذا ولا أعرفه صحيحا . 
وقال له  إسحاق بن منصور    : حديث  زيد بن أرقم    " أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد ؟ " قال : حديث  عمر  في القافة أعجب إلي . وذكر  البخاري  في تاريخه " : أن عبد الله بن الخليل  لا يتابع على هذا الحديث . وهذا يوافق قول  أحمد    : أنه حديث منكر . 
ويدل عليه أيضا : ما رواه قابوس بن أبي ظبيان  عن أبيه عن  علي  رضي الله عنه " أن رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد ، فجاءت بولد ، فدعا له  علي  القافة ، وجعله ابنهما جميعا ، يرثهما ويرثانه " وهذا يدل على أن مذهب  علي  رضي الله عنه : الأخذ بالقافة دون القرعة    . 
وأيضا : فالمعهود من استعمال القرعة إنما هو إذا لم يكن هناك مرجح سواها . ومعلوم أن القافة مرجحة : إما شهادة ، وإما حكما ، وإما فتيا ; فلا يصار إلى القرعة مع وجودها . وأيضا : فنفاة القافة لا يأخذون بحديث  علي  في القرعة ، ولا بحديثه وحديث  عمر  في القافة ، فلا يقولون بهذا ولا بهذا . 
فنقول : حديث  علي    : إما أن يكون ثابتا أو ليس بثابت ، فإن لم يثبت فلا إشكال ، وإن كان ثابتا ، فهو واقعة عين ، تحتمل ، وجوها : أحدها : أنه لا يكون قد وجد في ذلك المكان وفي ذلك الوقت قائف ، أو يكون قد أشكل على القائف ولم يتبين له ، أو يكون لعدم كون القيافة طريقا شرعيا ، وإذا احتملت القصة هذا وهذا وهذا : لم يجزم بوقوع أحد الاحتمالات إلا بدليل ، وقد تضمنت القصة أمرين مشكلين :  [ ص: 197 ] أحدهما : ثبوت النسب بالقرعة . 
والثاني : إلزام من خرجت له القرعة بثلثي الدية للآخر . فمن صحح الحديث ونفى الحكم والتعليل - كبعض أهل الظاهر - قال به ولم يلتفت إلى معنى ولا علة ولا حكمة ، وقال : ليس هنا إلا التسليم والانقياد . وأما من سلك طريق التعليل والحكمة ، فقد يقول : إنه إذا تعذرت القافة وأشكل الأمر عليها : كان المصير إلى القرعة أولى من ضياع نسب الولد ، وتركه هملا لا نسب له ، وهو ينظر إلى ناكح أمه وواطئها ، فالقرعة هاهنا أقرب الطرق إلى إثبات النسب ، فإنها طريق شرعي ، وقد سدت الطرق سواها ، وإذا كانت صالحة لتعيين الأملاك المطلقة ، وتعيين الرقيق من الحر ، وتعيين الزوجة من الأجنبية ، فكيف لا تصلح لتعيين صاحب النسب من غيره ؟ . 
والمعلوم أن طرق حفظ الأنساب أوسع من طرق حفظ الأموال ، والشارع إلى ذلك أعظم تشوفا ، فالقرعة شرعت لإخراج المستحق تارة ، ولتعيينه تارة ، هاهنا أحد المتداعيين هو أبوه حقيقة ، فعملت القرعة في تعيينه ، كما عملت في تعيين الزوجة عند اشتباهها بالأجنبية ، فالقرعة تخرج المستحق شرعا ، كما تخرجه قدرا . 
وقد تقدم في تقرير صحتها واعتبارها ما فيه شفاء ، فلا استبعاد في الإلحاق بها عند تعينها طريقا ، بل خلاف ذلك ، هو المستبعد . 
الأمر الثاني : إلزام من خرجت له القرعة بثلثي الدية لصاحبه ، ولهذا أيضا وجه ، فإن وطئ كل واحد من الآخرين كان صالحا لحصول الولد له ، ويحتمل أن يكون الولد له في نفس الأمر ، فلما خرجت القرعة لأحدهم : أبطلت ما كان من الواطئين من حصول الولد له ، فقد بذر كل منهم بذرا يرجو به أن يكون الزرع له ، فقد اشتركوا في البذر ، فإذا فاز أحدهم بالزرع : كان من العدل أن يضمن لصاحبيه ثلثي القيمة ، والدية قيمة الولد شرعا ، فلزمه ضمان ثلثيها لصاحبيه ، إذ الثلثان عوض ثلثي الولد الذي استبد به دونهما ، مع اشتراكهما في سبب حصوله . وهذا أصح من كثير من الأحكام التي يثبتونها بآرائهم وأقيستهم ، والمعنى فيه أظهر . 
وقد اعتبر الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك في ولد المغرور ، حيث حكموا بحريته ، وألزموا الواطئ فداءه بمثله لما فوت رقه على سيد الأمة ، هذا مع أنه لم يوجد من سيدها هنا كوطء يكون منه ولد ، بل الزوج وحده هو الواطئ ، ولكن لما كان الولد تابعا لأمه في الرق : كان بصدد أن يكون رقيقا لسيدها ، فلما فاته ذلك - بانعقاد الولد حرا من أمته - ألزموا الواطئ بأن يغرم له نظيره ، ولم يلزموه بالدية ، لأنه إنما فوت عليه رقيقا ، ولم يفوت عليه حرا ، وفي قصة  علي    : كان  [ ص: 198 ] الذي فوته الواطئ القارع حرا ، فلزمته حصة صاحبيه من الدية ولو كان واحدا لزمه نصف الدية . 
فهذا أحسن وجوه الحديث ، فإن كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالقول الصحيح هو القول بموجبه ، ولا قول سواه ، وبالله التوفيق . 
				
						
						
