97 - ( فصل ) 
هذا كله في الحكم بين الناس في الدعاوى . وأما الحكم بينهم فيما لا يتوقف على الدعوى : فهو المسمى بالحسبة ، والمتولي له : والي الحسبة    . 
وقد جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة ، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة ، والمتولي لها يسمى والي المظالم ، وولاية المال قبضا وصرفا بولاية خاصة ، والمتولي لذلك يسمى وزيرا ، وناظر البلد ، والمتولي لإحصاء المال ووجوهه وضبطه ، تسمى ولايته : ولاية استيفاء ، والمتولي لاستخراجه وتحصيله ممن هو عليه ، تسمى ولايته ولاية السر ، والمتولي لفصل الخصومات ، وإثبات الحقوق ، والحكم في الفروج والأنكحة والطلاق والنفقات ، وصحة العقود وبطلانها : هو المخصوص باسم الحاكم والقاضي ، وإن كان هذا الاسم يتناول كل حاكم بين اثنين وقاض بينهما ، فيدخل أصحاب هذه الولايات جميعهم تحت قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل    } وتحت قوله تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون    } ، وقوله : { فأولئك هم الظالمون    } وقوله : { فأولئك هم الفاسقون    } وتحت قوله : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم    } وقوله صلى الله عليه وسلم : { القضاة ثلاثة   } وقوله : { من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين   } وقوله صلى الله عليه وسلم : { المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في  [ ص: 199 ] حكمهم وأهليهم وما ولوا   } . 
والمقصود : أن الحكم بين الناس في النوع الذي لا يتوقف على الدعوى : هو المعروف بولاية الحسبة . 
وقاعدته وأصله : هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، ووصف به هذه الأمة ، وفضلها لأجله على سائر الأمم التي أخرجت للناس ، وهذا واجب على كل مسلم قادر ، وهو فرض كفاية ، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره من ذوي الولاية والسلطان ، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم ، فإن مناط الوجوب : هو القدرة ، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز . 
قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم    } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم   } . 
وجميع الولايات الإسلامية : مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن من المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن ، والمطلوب منه : الصدق ، مثل صاحب الديوان الذي وظيفته : أن يكتب المستخرج والمصروف ، والنقيب والعريف الذي وظيفته : إخبار ولي الأمر بالأحوال ، ومنهم من يكون بمنزلة الآمر المطاع ، والمطلوب منه : العدل ، مثل الأمير والحاكم والمحتسب . 
ومدار الولايات كلها : على الصدق في الإخبار ، والعدل في الإنشاء ، وهما قرينان في كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا    } . 
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الأمراء الظلمة : { من صدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس مني ، ولست منه ، ولا يرد علي الحوض ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم ، فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض   } وقال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على  [ ص: 200 ] كل أفاك أثيم    } فالأفاك : الكاذب ، والأثيم : الظالم الفاجر 
وقال تعالى : { لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة    } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار   } . 
ولهذا يجب على كل ولي أمر أن يستعين في ولايته بأهل الصدق والعدل ، والأمثل فالأمثل ، وإن كان فيه كذب وفجور ، ف " إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " و " بأقوام لا خلاق لهم " . 
قال  عمر  رضي الله عنه : " من قلد رجلا على عصابة ، وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين " . 
والغالب : أنه لا يوجد الكامل في ذلك ، فيجب تحري خير الخيرين ، ودفع شر الشرين ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفرحون بانتصار الروم  والنصارى  على المجوس  عباد النار ; لأن النصارى  أقرب إليهم من أولئك ، وكان يوسف الصديق  عليه السلام نائبا لفرعون  مصر  ، وهو وقومه مشركون ، وفعل من الخير والعدل ما قدر عليه ، ودعا إلى الإيمان بحسب الإمكان . 
				
						
						
