تنبيهات
الأول : لا خلاف أن هذه الغزوة كانت في رمضان ، كما في الصحيح ، وغيره ، وعن قال : ابن عباس كما عند ابن شهاب من طريق البيهقي عقيل : لا أدري أخرج في شعبان فاستقبل رمضان ، أو خرج في رمضان بعد ما دخل ؟ ورواه من طريق البيهقي ابن أبي حفصة عن بإسناد صحيح . قال : الزهري صبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان .
وروى بإسناد صحيح عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - قال : أبي سعيد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان ، وهذا يدفع التردد الماضي ، ويعين يوم الخروج ، وقول خرجنا مع [ ص: 266 ] يعين يوم الدخول ، ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما . الزهري
قال الحافظ : وأما ما قاله أنه خرج لعشر خلون من رمضان فليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه ، قلت : قد وافق الواقدي على ذلك الواقدي وغيره ، ورواه ابن إسحاق بسند صحيح عن إسحاق بن راهويه وعند ابن عباس ، أنه دخل لست عشرة ، مسلم لثماني عشرة ، وفي أخرى لثنتي عشرة ، والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي ، والذي في المغازي : دخل لتسع عشرة مضت وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر . ولأحمد
ووقع في أخرى : بالشك في تسع عشرة أو سبع عشرة وروى يعقوب بن سفيان من طريق الحسن عن جماعة من مشايخه : أن الفتح كان في عشرين من رمضان ، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل الأخير .
الثاني : ففي اختلفت الروايات فيمن أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأتي بكتاب حاطب :
رواية أبي رافع عن قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا علي والزبير والمقداد .
وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي وأبا مرثد الغنوي ، قال الحافظ : فيحتمل أن يكون الثلاثة كانوا معه ، وذكر أحد الراويين عنه ما لم يذكر الآخر ، ثم قال : والذي يظهر ، أنه كان مع كل واحد منهما آخر تبعا له . والزبير بن العوام ،
الثالث : جزم بأن جميع من شهد الفتح من المسلمين عشرة آلاف . ورواه ابن إسحاق في صحيحه عن البخاري عروة ، من طريق آخر بسند صحيح عن وإسحاق بن راهويه وقال ابن عباس ، أيضا عروة والزهري وابن عقبة كانوا اثني عشر ألفا ، وجمع بأن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة . ثم تلاحق الألفان الرابع : وقع في الصحيح من رواية عن معمر عن الزهري عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن «وذلك على رأس ثماني سنين ونصف من مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة” قال الحافظ : وهو وهم ، والصواب على رأس سبع سنين ونصف ، وإنما وقع الوهم من كون غزوة الفتح كانت في سنة ثمان ، من أثناء ربيع الأول إلى أثناء رمضان نصف سنة سواء ، والتحرير أنها سبع سنين ونصف ويمكن توجيه رواية معمر : بأنه بناء على التاريخ بأول السنة من المحرم ، فإذا دخل من السنة الثانية شهران أو ثلاثة أطلق عليها سنة مجازا ، من تسمية البعض باسم الكل ، ويقع ذلك في آخر ربيع الأول . ومن ثم إلى رمضان [ ص: 267 ] ابن عباس
نصف سنة سواء ، ويقال : كان آخر شعبان تلك السنة آخر سبع سنين ونصف ، أو أن رأس الثماني كان أول ربيع الأول وما بعده نصف سنة .
الخامس : ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - أفطر بالكديد ، وفي رواية بغيره كما سبق في القصة ، والكل في سفرة واحدة ، فيجوز أن يكون فطره - صلى الله عليه وسلم - في أحد هذه المواضع حقيقة إما كديد ، وإما كراع الغميم ، وإما عسفان ، وإما قديد ، وأضيف إلى الآخر تجوزا لقربه منه ، ويجوز أن يكون قد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - الفعل في المواضع الأربعة ، والفطر في موضع منها ، لكن لم يره جميع الناس فيه ، لكثرتهم ، وكرره ليتساوى الناس في رؤية الفعل ، فأخبر كل عن رؤية عين وأخبر كل عن محل رؤيته .
السادس : وقع في الصحيح : ثم جاءت كتيبة ، وهي أقل الكتائب ، أي عددا فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال القاضي - رحمه الله تعالى - : كذا لجميع رواة الصحيح بالقاف ، وقد وقع في الجمع للحميدي «أجل” بالجيم بدل القاف - من الجلالة ، قال القاضي : وهو أظهر انتهى .
وكل منهما ظاهر لا خفاء فيه ولا ريب كما في مصابيح الجامع للدماميني : أن المراد قلة العدد لا الاحتقار ، هذا ما لا يظن بمسلم اعتقاده وتوهمه ، فهو وجه لا محيد عنه ، ولا ضير فيه بهذا الاعتبار . والتصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في هذه الكتيبة التي هي أقل عددا مما سواها من الكتائب قاض بجلالة قدرها ، وعظم شأنها ، ورجحانها على كل شيء سواها ، ولو كان ملء الأرض بل وأضعاف ذلك .
السابع : وقع في الصحيح عن قال : وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عروة أن يدخل من أعلى مكة من خالد بن الوليد كداء - أي بالمد - ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أسفل مكة من كدى ، أي بالقصر . وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة . ففي الصحيح وغيره أن دخل من أسفل خالد بن الوليد مكة ، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعلاها ، وبه جزم ابن عقبة ، وغيرهما . وابن إسحاق
الثامن : أي تحالفوا عليه من إخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبني هاشم إلى شعب الحكمة في نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيف بني كنانة الذي تقاسموا فيه على الشرك ، أبي طالب ، وحصروا بني هاشم وبني المطلب فيه ، كما تقدم ذلك في أبواب البعثة ، ليتذكر ما كان فيه من الشدة فيشكر الله - تعالى - علي ما أنعم عليه من الفتح العظيم ، وتمكنه من دخول مكة ظاهرا على رغم من سعى في إخراجه منها ، ومبالغة في الصفح عن الذين أساءوا ، ومقابلتهم بالمن والإحسان ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . [ ص: 268 ]
التاسع : قال - رحمه الله تعالى - إنما أنكر العباس على القاضي أبو بكر بن العربي أبي سفيان ذكر الملك مجردا من النبوة ، مع أنه كان في أول دخوله الإسلام ، وإلا فجائز أن يسمى مثل هذا ملكا وإن كان لنبي ، فقد قال الله سبحانه وتعالى في داود وشددنا ملكه [ص 20] وقال سليمان وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي [ص 35] غير أن الكراهة أظهر في تسمية حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ملكا ، لما جاء في الحديث : . وإنكار إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير بين أن يكون نبيا عبدا ، أو نبيا ملكا ، فالتفت إلى جبريل ، فأشار إليه أن تواضع ، فقال : بل نبيا عبدا ، أشبع يوما وأجوع يوما” على العباس أبي سفيان يقوي هذا المعنى ، وأمر الخلفاء الأربعة بعده أيضا يكره أن يسمى ملكا ، لقوله - صلى الله عليه وسلم «تكون بعدي خلفاء ، ثم تكون أمراء ، ثم يكون ملوك ، ثم يكون جبابرة” .
العاشر : كما رواه الإمام الساعة التي أحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - القتل فيها بمكة من صبيحة يوم الفتح إلى العصر عن أحمد - رضي الله تعالى عنهما . عبد الله بن عمرو بن العاص
الحادي عشر : لا مخالفة بين حديث نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالمحصب ، وبين حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - نزل في بيت أم هانئ ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقم في بيت أم هانئ ، وإنما نزل به حتى اغتسل وصلى ، ثم رجع إلى حيث ضربت خيمت عند شعب أبي طالب ، وهو المكان الذي حصرت فيه أم هانئ قريش المسلمين قبل الهجرة كما تقدم بيان ذلك .
الثاني عشر : روى اختلف في قاتل ابن خطل ، من طريق ابن أبي شيبة أن أبي عثمان النهدي : أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله ، وله شاهد عند في كتاب البر والصلة من حديث ابن المبارك أبي برزة نفسه . ورواه من وجه آخر . قال الحافظ : وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله ، وبه جزم الإمام أحمد وغيره من أهل العلم بالأخبار . وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله ، فكان المباشر له منهم البلاذري أبو برزة ، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه ، فقد جزم ابن هشام بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله ، وقد قيل : قتله وقيل الزبير بن العوام . شريك بن عبدة العجلاني .
الثالث عشر : وقع في حديث عند أم هانئ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل في بيتها ، وفي حديثها عند البخاري : مسلم : مكة ، فوجدته يغتسل ، وفاطمة تستره ، ويجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه ، ويؤيده ما رواه أنها ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى من طريق ابن خزيمة عن مجاهد وفيه : أن أم هانئ ستره لما اغتسل ، ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى أبا ذر مكة وكانت هي في بيت آخر بمكة ، فجاءت إليه فوجدته يغتسل ، فيصح القولان ، وأما المتستر فيحتمل أن يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل ، والآخر في أثنائه . [ ص: 269 ]
الرابع عشر : قال السهيلي : تعرف بذلك عند أهل العلم ، وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا . قال ولا يجهر فيها بالقراءة أي صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم هانئ في ثماني ركعات ، وهي صلاة الفتح ، أبو جعفر بن جرير : صلى حين افتتح المدائن ثماني ركعات في إيوان كسرى ، قال : وهي ثماني ركعات لا يفصل بينها ، ولا تصلى بإمام ، قال سعد بن أبي وقاص السهيلي : ولا يجهر فيها بالقراءة .
الخامس عشر : وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أنه سأل ابن عمر : أسامة وفي رواية أبي الشعثاء عن قال : أخبرني ابن عمر أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه ههنا ، وفي رواية خالد بن حارث عن ابن عوف عن نافع عن فقلت : أين صلى ؟ فقالوا ، ههنا . قال الحافظ : فإن كان محفوظا حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسؤال ، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة ، فسأل أسامة ، وعثمان أيضا . ويؤيد ذلك رواية ابن عمر : ابن عوف عند «ونسيت أن أسألهم كم صلى” بصيغة الجمع قال الحافظ : وهذا أولى من جزم القاضي بوهم الرواية التي عند مسلم : وكأنه لم يقف على بقية الروايات . مسلم ،
السادس عشر : قول من زعم أن يحيى بن سعيد القطان غلط في قوله ركعتين لقول نسيت وأن الوهم دخل عليه من ذكر الركعتين بعد خروجه - صلى الله عليه وسلم - «[والمغلط] هو الغالط ، وكلامه مردود ، فإن ابن عمر : يحيى ذكر الركعتين قبل وبعد ، فلم يهم من موضع إلى موضع ، ولم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتى يغلط ، بل تابعه من سبق ذكرهم في القصة ، والعجب من الإقدام على تغليط جبل من جبال الحفظ بقول من خفي عليه وجه الجمع بين الحديثين ، فقال بغير علم ، ولو سكت لسلم .
السابع عشر : قال الحافظ : رحمه الله تعالى - جمع بين روايتي فليح ، وأيوب ، وابن عون عن نافع عن أنه قال : «نسيت أن أسأل ابن عمر بلالا” وفي لفظ : «أسألهم كم صلى” وبين رواية غير نافع عن أنه سأل عن ذلك ، فقيل له ركعتان باحتمال أن ابن عمر اعتمد في قوله في رواية ابن عمر مجاهد ، وابن أبي مليكة وغيرهما عنه ركعتين على القدر المتحقق ، وذلك أن أثبت له أنه صلى ، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنفل في النهار بأقل من ركعتين ، وكانت الركعتان متحققا وقوعهما ، لما عرف بالاستقراء من عادته - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فقوله : ركعتين من كلام بلالا لا من كلام ابن عمر ، قال الحافظ : ووجدت ما يؤيد هذا ، ويستفاد منه جمع آخر بين الحديثين ، وهو ما أخرجه بلال ، في كتاب عمر بن شبة مكة من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن نافع عن في هذا الحديث : ابن عمر ، فعلى هذا فيحمل قوله : «نسيت أن [ ص: 270 ] «فاستقبلني بلال فقلت : ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ههنا ؟ فأشار بيده أن صلى ركعتين بالسبابة والوسطى”
أسأله كم صلى على أنه لم يسأله لفظا ولم يجبه لفظا وإنما استفاد منه صلاة ركعتين بإشارته لا بنطقه ، وأما قوله في رواية أخرى : ونسيت أن أسأله كم صلى” فيحمل على أن مراده أنه لم يتحقق هل زاد على ركعتين أولا ؟ وقال شيخه الحافظ أبو الفضل العراقي : فيحتمل أن وإن كان سمع من ابن عمر أنه صلى ركعتين لم يكتف بذلك في أنه لم يصل غيرهما ، لأن من صلى أربعا أو أكثر ، يصدق عليه أنه صلى ركعتين على القول بأن مفهوم العدد ليس بحجة كما هو المرجح في الأصول ، فلعل الذي نسي أن يسأل عنه بلالا في أنه هل زاد على ركعتين بشيء أم لا ؟ . قال بلال الحافظ ابن حجر : وأما قول بعض المتأخرين : يجمع بين الحديثين بأن سأل ابن عمر ثم لقيه مرة أخرى ، فسأله ، ففيه نظر من وجهين : أحدهما أن الذي يظهر أن القصة وهو سؤال بلالا ، عن صلاته في الكعبة لم يتعدد ، لأنه أتى في السؤال بالفاء المعقبة في الروايتين معا ، فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدا في وقت واحد . ثانيهما أن راوي قول ابن عمر «نسيت” هو ابن عمر نافع مولاه ، ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمر على حكاية النسيان ، ولا يتعرض لحكاية التذكر لقدر صلاته - والله تعالى أعلم .
الثامن عشر : قال الحافظ : لا يعارض إثبات أسامة في رواية عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في البيت ما رواه ابن عمر عن ابن عباس أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في البيت لإمكان الجمع بينهما ، لأن أسامة حين أثبتها اعتمد في ذلك على غيره ، وحيث نفاها أراد ما في علمه بكونه لم يره - صلى الله عليه وسلم - حين صلى ، وقال الحافظ في موضع آخر : تعارضت الرواية عن أسامة في ذلك فتترجح رواية من جهة أنه مثبت وغيره ناف ، ومن جهة أنه لم يختلف عليه في الإثبات ، واختلف على من نفى . بلال
وقال الإمام النووي وغيره : يجمع بين إثبات ونفي بلال ، أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء ، فرأى أسامة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ، فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية ، ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه لقربه منه ولم يره بلال أسامة لبعده منه واشتغاله بالدعاء ، ولأن بإغلاق الباب تكون ظلمة مع احتمال أن يحجبه بعض الأعمدة ، فنفاها عملا بظنه .
وقال الإمام المحب الطبري : يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته - انتهى . ويشهد له ما رواه في مسنده بإسناد جيد رجاله ثقات عن أبو داود الطيالسي ابن أبي ذؤيب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة قال :
، قال «دخلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة فرأى صورا ، فدعا بدلو من ماء ، فأتيته به ، فضرب به الصور” فلعله [استصحب النفي] بسرعة عوده انتهى قلت : هو مفرع على أن هذه [ ص: 271 ] القرطبي
القصة وقعت عام الفتح ، فإن لم يكن فقد روى في كتاب عمر بن شبة مكة من طريق علي بن بذيمة بالموحدة ، وزن عظيمة التابعي ، قال : وجلس بلال ، أسامة على الباب ، فلما خرج وجد أسامة قد احتبى ، فأخذ بحبوته فحلها” . «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة . ودخل معه
الحديث فلعله احتبى فاستراح فنعس ، فلم يشاهد صلاته ، فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي ، لقصر زمن احتبائه ، وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته ، لا ما في نفس الأمر . وبعض العلماء حمل الصلاة المثبتة على اللغوية ، والمنفية على الشرعية ، ويرد هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه الصحيحة : أنه صلى ركعتين ، فظهر أن المراد الشرعية لا مجرد الدعاء . وقال المهلب شارح يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين . صلى في إحداهما ولم يصل في الأخرى ، وقال البخاري : الأشبه عندي في الجمع ، أن يجعل الخبران في وقعتين ، فيقال ، لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال ، ويجعل نفي ابن حبان : الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها ، لأن ابن عباس نفاها وأسند ذلك إلى ابن عباس أسامة وأخيه الفضل ، أثبتها ، وأسند ذلك إلى وابن عمر أسامة ، وإلى بلال وأسامة أيضا ، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض . قال الحافظ : وهو جمع حسن لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع ، ويشهد له ما رواه الأزرقي عن عن غير واحد من أهل العلم : أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ، ثم حج فلم يدخلها ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين ويكون المراد بالواحدة التي في خبر سفيان بن عيينة واحدة السفر لا الدخول ، وقد وقع عند ابن عيينة من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع . قلت : قال الدارقطني في سننه : واعتمد القاضي الدارقطني عز الدين بن جماعة ذلك . واستدل له أيضا بأن الإمام قال في مسنده : حدثنا أحمد هشيم قال : أخبرنا عبد الملك عن قال : قال عطاء ، أسامة بن زيد : ورواه دخلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وهلله وكبره ، وخرج ولم يصل ، ثم دخلت معه في اليوم الثاني ، فقام ، ودعا ثم صلى ركعتين ، ثم خرج فصلى ركعتين خارج البيت مستقبل وجه الكعبة ، ثم انصرف ، فقال : «هذه القبلة” قلت : لم أقف على هذا الحديث في مجمع الزوائد أحمد بن منيع . للهيثمي ، ولا في إتحاف المهرة للأبوصيري ، لا في كتاب الصلاة ، ولا في كتاب الحج فالله أعلم . والذي
في مجمع الزوائد عن قال : ابن عباس رواه دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة ، فصلى بين الساريتين ركعتين ، ثم خرج وصلى بين الباب وبين الحجر ركعتين ، ثم قال : «هذه القبلة” ثم [ ص: 272 ] دخل مرة أخرى ، فقام يدعو ولم يصل . في الكبير ، الطبراني
قال الهيثمي : فيه أبو مريم ، روى عن صغار التابعين ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله موثقون ، وفي بعضهم كلام .
وروى الأزرقي عن عبد المجيد بن عبد العزيز عن أبيه قال : بلغني أن الفضل ابن عباس دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ - أي يوم الفتح - فقال : لم أره صلى فيها ، قال أبي : وذلك فيما بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعانه في حاجة فجاء وقد صلى ولم يره . قال عبد المجيد : قال أبي ، وذلك أنه بعثه فجاء بذنوب من ماء زمزم يطمس به الصور التي في الكعبة ، فلذلك لم يره صلى . قلت : وأيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسله وأسامة في ذلك - كما تقدم في أسامة - واعتمد الإمام تقي الدين الفاسي في تاريخه من هذه الأجوبة ما رواه عن أبو داود الطيالسي أسامة ، وتعقب ما سواه بكلام نفيس جدا فراجعه فإنك لا تجده في غير كتابه ، وذكره هنا ليس من غرضنا .
التاسع عشر : تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة ، وأنه جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ، وفي رواية جعل عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه وفي أخرى عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وفي رواية بين العمودين اليمانيين ، وفي أخرى بين العمودين تلقاء وجهه ، وبين العمودين المقدمين ، قال المحب الطبري في الأحكام الكبرى : وهذا يؤيد رواية من روى أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره لأن الباب قريب من الحجر الأسود ، جانح إلى جهة اليمين ، ويفتح في جهة المشرق فإذا دخل منه وصلى تلقاء وجهه بين العمودين المقدمين اليمانيين والبيت يومئذ على ستة أعمدة فقد جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره ، وثلاثة أعمدة وراءه ، وصلى إلى جهة المغرب ، وقوله اليمانيين قد يشكل فإنها ثلاثة صف وجعل اثنين منها يمانيين ليس بأولى من جعلهما شاميين ، والجواب : أنه إنما جعل اثنين منهما يمانيين لأن مقر الثلاثة بصفة يماني وبصفة شامي ، فمن وقف بين المتمحض يمانيا وبين المشترك بين اليمن والشام جاز أن يقال فيه : وقف بين اليمانيين باعتبار ما نسب منه إلى اليمن تجوزا ومن وقف بين المتمحض شاميا وبين المشترك جاز أن يقال فيه : وقف بين الشاميين لما ذكرناه ، أو تقول لما وقف بينهما كان هو إلى جهة اليمن أقرب ، فأطلق عليهما يمانيين اعتبارا به ، والأول أظهر ، ولا تضاد بين هذا وبين قوله عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره ، فإن من ضرورة جعل عمودين عن يمينه أن يكون عمودا عن يمينه والآخر مسكوتا عنه ، وليس في اللفظ ما ينفيه ، وقال الحافظ : ليس بين رواية : جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره مخالفة ، لكن قوله في رواية وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل ، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين ، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك ، ويرشد إلى ذلك . [ ص: 273 ] مالك :
قوله : وكان البيت يومئذ ، لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى . قال الكرماني : لفظ العمود جنس يشمل الواحد والاثنين فهو مجمل بينته رواية «وعمودين” ويحتمل أن يقال : لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد ، بل اثنان على سمت ، والثالث على غير سمتهما ، ولفظ المقدمين في الحديث السابق مشعر به قال الحافظ : ويؤيده رواية عن مجاهد عند ابن عمر في باب «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى” ، «فإن فيها بين الساريتين اللتين عن يسار الداخل” وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار ، وأنه صلى بينهما ، فيحتمل أنه كان ثم عمود آخر عن اليمين ، لكنه بعيد أو على غير سمت العمودين فيصح قول من قال : البخاري
جعل عن يمينه عمودين ، وقول من قال : جعل عمودا عن يمينه ، وجوز الكرماني احتمالا آخر ، وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة ، فصلى إلى جنب الأوسط فمن قال : جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه ، ومن قال : عمودين اعتبره وجمع بعض المتأخرين باحتمال تعدد الواقعة ، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث ، وقد جزم بترجيح رواية أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره . وقال البيهقي المحب الطبري في صفوة القرى إنه الأظهر .
العشرون : لا خلاف في دخوله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة يوم الفتح ، وتقدم في التنبيه الثامن عشر : أنه دخل في ثاني الفتح ، وذكر بعضهم أنه دخلها في عمرة القضية ، والصحيح خلافه ، فقد قال عن البخاري - رضي الله عنه - إنه لم يدخلها ، وذكر بعضهم أنه دخلها في عمرة القضية وحجة الوداع ، وسيأتي هناك تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى . عبد الله بن أبي أوفى
الحادي والعشرون : اختلف في قدر إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة كما تقدم في القصة ، وجمع الإمام البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يوم الدخول والخروج ، ومن قال سبع عشرة حذفهما ، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما . وأما رواية خمس عشرة فضعفها النووي من الخلاصة . قال الحافظ : وليس بجيد لأن رواتها ثقات ، ولم ينفرد بها ابن إسحاق كما تقدم بيانه في القصة ، وإذا ثبت أنها صحيحة فلتحمل على أن الراوي ظن أن الأصل سبع عشرة فحذف منها يومي الدخول والخروج ، فذكر أنها خمسة عشر ، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة ، أرجح الروايات ، ويرجحها أيضا أنها أكثر الروايات الصحيحة ، قال الحافظ : وحديث أنس لا يعارض حديث أي السابق في آخر القصة ، لأن حديث ابن عباس في الفتح وحديث أنس كان في حجة الوداع ، وبسط الكلام على بيان ذلك ، وقال في موضع آخر : الذي أعتقده أن حديث ابن عباس إنما هو في حجة الوداع فإنها هي السفرة التي أقام فيها أنس بمكة عشرة أيام ، لأنه دخل اليوم الرابع وخرج اليوم الرابع عشر ، ثم قال الحافظ : ولعل . [ ص: 274 ]
البخاري أدخله في هذا الباب إشارة إلى ما ذكرت ، ولم يفصح بذلك تشحيذا للأذهان ، ووقع في رواية فأقام بها عشرا يقصر الصلاة حتى رجع إلى الإسماعيلي : المدينة ، وكذا هو في باب قصر الصلاة عند وهو يؤيد ما ذكرته ، فإن مدة إقامتهم في سفرة الفتح حتى رجعوا إلى البخاري ، المدينة أكثر من ثمانين يوما .