ذكر إرساله - صلى الله عليه وسلم - إلى دحية هرقل يدعوه إلى الإسلام وقدوم [رسول] هرقل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما وقع في ذلك من الآيات
لما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك كان هرقل بحمص ، ولم يكن يهم بالذي بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه من جمعه ، ولا حدثته نفسه بذلك .
وروى الحارث بن أبي أسامة عن بكر بن عبد الله المزني - رحمه الله تعالى - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من يذهب بهذا الكتاب إلى قيصر وله الجنة" ؟ فقال رجل : وإن لم يقبل ؟
قال : "وإن لم يقبل" فانطلق الرجل فأتاه بالكتاب ، فقرأه فقال : اذهب إلى نبيكم فأخبره أني متبعه ، ولكن لا أريد أن أدع ملكي ، وبعث معه بدنانير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع فأخبره ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كذب" وقسم الدنانير .
وروى الإمام . أحمد بسند حسن لا بأس به عن وأبو يعلى سعيد بن أبي راشد قال :
لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحمص ، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ المائة أو قرب ، فقلت : ألا تحدثني عن رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ؟ فقال : بلى ، إلى دحية الكلبي هرقل ، فلما أن جاء كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا قسيسي الروم وبطارقتها ، ثم أغلق عليه وعليهم الدار فقال : قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم ، وقد أرسل يدعوني إلى ثلاث خصال : أن أتبعه على دينه ، أو أن أعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا ، أو نلقي إليه الحرب . والله لقد عرفتم فيما تقرأون من الكتب ليأخذن [ ص: 458 ] أرضنا فهلم فلنتبعه على دينه ، أو نعطه مالنا على أرضنا ، فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا : تدعونا أن نذر النصرانية أو نكون عبيدا لأعرابي جاء من الحجاز ؟ فلما ظن أنهم إذا خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رقاهم ولم يكد وقال : إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم ، ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال . ادع لي رجلا حافظا للحديث عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه ، فجاءني فدفع إلي هرقل كتابا ، فقال : اذهب بكتابي هذا إلى هذا الرجل ، فما سمعته من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال هل يذكر صحيفته التي كتب بشيء ؟ وانظر إذا قرأ كتابي هذا هل يذكر الليل ؟ قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك ، فبعث
وانظر في ظهره هل فيه شيء يريبك ؟ قال : فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا فإذا هو جالس بين ظهري أصحابه محتبيا على الماء ، فقلت : أين صاحبكم ؟ قيل ها هو ذا ، قال فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال : "ممن أنت ؟ " فقلت : أنا أخو تنوخ ، فقال : "هل لك في الإسلام . الحنيفية ملة أبيك إبراهيم ؟ " فقلت : إني رسول قوم وعلى دين قوم [لا أرجع عنه] حتى أرجع إليهم . فضحك وقال إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين [القصص 56] يا أخا تنوخ ، إني كتبت بكتاب إلى كسرى فمزقه ، والله ممزقه وممزق ملكه ، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فمزقها ، والله ممزقه وممزق ملكه . وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير قلت : هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي ، فأخذت سهما من جعبتي فكتبتها في جفن سيفي ، ثم ناول الصحيفة رجلا عن يساره ، قلت : من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم ؟ قالوا : معاوية . فإذا في كتاب صاحبي : تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار ؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سبحان الله أين النهار إذا جاء الليل"
قال :
فأخذت سهما من جعبتي فكتبته في جفن سيفي ، فلما فرغ من قراءة كتابي قال : "إن لك حقا ، وإنك لرسول ، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها ، إنا سفر مرملون" قال قتادة فناداه رجل من طائفة الناس قال : أنا أجوزه ففتح رحله فإذا هو بحلة صفورية فوضعها في حجري ، قلت من صاحب الجائزة ؟ قيل لي : عثمان ، ثم
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أيكم ينزل هذا الرجل ؟ " فقال فتى من الأنصار : أنا ، فقام الأنصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "تعال يا أخا تنوخ" فأقبلت أهوى حتى كنت قائما في مجلسي الذي كنت بين يديه ، فحل حبوته عن ظهره وقال : "ها هنا امض لما أمرت له ، فجلت في ظهره فإذا أنا بخاتم النبوة في موضع غضروف الكتف مثل المحجمة الضخمة" . [ ص: 459 ]
قال محمد بن عمر : فانصرف الرجل إلى هرقل فذكر ذلك له . فدعا قومه إلى التصديق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فأبوا حتى خافهم على ملكه ، وهو في موضعه بحمص لم يتحرك ولم يزحف ، وكان الذي خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من تعبئة أصحابه ودنوه إلى وادي الشام لم يرد ذلك ولا هم به .
وذكر السهيلي رحمه الله تعالى : أن هرقل أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية - فقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديته وفرقها على المسلمين .
ثم إن هرقل أمر مناديا ينادي : ألا إن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه ، فدخلت الأجناد في سلاحها وطافت بقصره تريد قتله ، فأرسل إليهم : إني أردت أن أختبر صلابتكم في دينكم ، فقد رضيت عنكم ، فرضوا عنه .
ثم كتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا مع يقول فيه : إني معكم ولكني مغلوب على أمري ، فلما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابه قال : "كذب عدو الله ، وليس بمسلم بل هو على نصرانيته" . دحية