الثامنة والثمانون .
وبإرساله رحمة للعالمين حتى للكفار بتأخير العذاب ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة .
قال الله سبحانه وتعالى : وما أرسلناك إلا رحمة [الأنبياء 107] وقال تبارك وتعالى :
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم [الأنفال 33] .
روى عن مسلم رضي الله عنه قال : أبي هريرة قيل : يا رسول الله ، ألا تدعو على المشركين ؟ قال : «إنما بعثت رحمة ، ولم أبعث عذابا» .
روى ابن جرير عن والطبراني رضي الله عنهما في الآية الأولى قال : من آمن به تمت له الرحمة على الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن به عوفي مما كان يصيب الأمم من عاجل الدنيا من العذاب ، والخسف ، والمسخ ، والقذف . ابن عباس
روى عن أبو نعيم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي أمامة «إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين» .
وروى الإمام العلامة أبو الثناء محمود جمال الدين بن محمد بن جملة في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : كونه صلى الله عليه وسلم رحمة لأهل الدنيا بأجمعهم واضح ، وأما الملائكة فهو رحمة لهم من وجوه :
أحدها : صلاتهم عليه رحمة لهم؛ فقد ثبت في صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مسلم «من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا»
وأي فائدة أنفع من هذه ؟ !
الثاني :
قال في الشفاء : حكي القاضي عياض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل صلى الله عليه وسلم : «هل [ ص: 307 ] أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ » قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت؛ لثناء الله تعالى علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [التكوير 20 ، 21] .
الثالث : والملائكة وغيرهم والأنبياء وأتباعهم . مقامه المحمود يوم القيامة يحمده فيه الأولون والآخرون ،
قال صلى الله عليه وسلم في حديث رواه مسلم : إبراهيم» . «وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى
ثم نقل عن عمه قاضي القضاة أبي العباس أحمد رضي الله عنه أن الحكمة في تخصيص إبراهيم أن الله تعالى أمر نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعه وهو مع هذا فهو يرغب إليه في ذلك اليوم .
انتهى .
الرابع : قال الله تعالى : إن الله وملائكته [الأحزاب 56] ولم يقل : «والملائكة» تعظيما لشأنهم لعظم شأن من يصلي عليه ، ثم في تأخيره سبحانه وتعالى الخبر رحمة لهم واضحة حين جمعهم معه في خبر ، واحتمل أن يكون وقد قال تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم [آل عمران 18] الآية . . فذكر سبحانه وتعالى ما شهد به ، ثم عطف شهادة الملائكة ، وأولي العلم عليه ، ولا كذلك في هذه الآية؛ فانظر إلى هذا التعظيم العظيم ، بسبب صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم .
التاسعة والثمانون .
وبأن قال الله تعالى : الله عز وجل أقسم بحياته؛ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر 72] .
روى أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي عن وأبو نعيم رضي الله عنهما قال : ما خلق الله تعالى وما ذرأ نفسا أكرم عليه من ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم وما حلف بحياة أحد قط إلا بحياة محمد ، فقال : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر 72] .
وروى عن ابن مردويه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة «ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم قال : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر 72] .
العمر : بفتح العين وضمها واحد ، لكنه في القسم بالفتح لكثرة الاستعمال .
التسعون .
وبإقسام الله تبارك وتعالى على رسالته قال : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين [يس 1 ، 3] . [ ص: 308 ]
الحادية والتسعون .
وبتولي الله سبحانه تعالى الرد على أعدائه عنه صلى الله عليه وسلم بخلاف من تقدمه من الأنبياء ، كانوا يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم لقول نوح : يا قوم ، ليس بي ضلالة [الأعراف 61] وقول هود : يا قوم ، ليس بي سفاهة [الأعراف 67] وأشباه ذلك ، ونبينا صلى الله عليه وسلم تولى الله سبحانه وتعالى تبرئته عما نسب إليه أعداؤه ورد عليهم بنفسه . فأجاب حين قالوا : «مجنون» : ما أنت بنعمة ربك بمجنون [القلم 2] وأجاب عنه تعالى حين قالوا : «هو شاعر» فقال : وما علمناه الشعر وما ينبغي له [يس 69] فنفى الله تبارك وتعالى عنه الشعر بسائر الأوزان .
وأجاب سبحانه وتعالى عنه حين قالوا : «افترى القرآن» ، فقال عز وجل : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله [يونس 37] .
الافتراء : الكذب .
وأجاب تبارك وتعالى اسمه عنه حين قالوا : إنما يعلمه بشر فقال عز وجل : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [النحل 103] وأجاب تقدس اسمه عنه حين قال العاص بن وائل ، إنه أبتر ، فقال سبحانه وتعالى : إن شانئك هو الأبتر [الكوثر 3] .
الثانية والتسعون .
وبمخاطبته سبحانه وتعالى له بألطف ما خاطب به الأنبياء ، فإن الله تعالى قال لداود صلى الله عليه وسلم : ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ص 26] وقال عن نبينا صلى الله عليه وسلم : وما ينطق عن الهوى [النجم 3] ، تنزيها له عن ذلك بعد الإقسام عليه ، وقال عن موسى : ففررت منكم لما خفتكم [الشعراء 21] وقال عن نبينا صلى الله عليه وسلم : وإذ يمكر بك الذين كفروا [الأنفال 30] الآية ، فكنى عن خروجه وهجرته بأحسن العبارات ، ولم يذكره بالفرار الذي فيه نوع من الغضاضة .
الثالثة والتسعون .
وبأنه تعالى قرن اسمه صلى الله عليه وسلم باسمه في كتابه في ثمانية مواضع :
أولها : الطاعة ، قال الله تبارك وتعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء 80] وقال عز وجل : قل أطيعوا الله والرسول [آل عمران 32] آمنوا بالله ورسوله [الحديد 7] فجمع بينهما بواو العطف المشركة ، ولا يجوز جمع هذا الكلام في حق غيره صلى الله عليه وسلم .
ففي سنن عن أبي داود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : حذيفة «لا يقولن [ ص: 309 ] أحدكم : ما شاء الله ، وشاء فلان ، ولكن : ما شاء الله ، ثم شاء فلان»
فالواو تقتضي الجمع دون الترتيب على الصحيح ، وثم : تقتضي الترتيب مع التراخي .
ثانيها : المحبة ، قال الله جل جلاله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [آل عمران 31] فجعل عز وجل وشرط مع ذلك محبته إياهم ومغفرة ذنوبهم . علامة محبته اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ونهى عنه ،
ثالثها : في المعصية ، قال الله تعالى : ومن يعص الله ورسوله [النساء 14] .
رابعها : في العزة ، قال الله تعالى : ولله العزة ولرسوله [المنافقون 8] أي الامتناع وجلالة القدرة .
خامسها : في الولاية ، قال الله سبحانه وتعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا [المائدة 55] والولاية إذا كانت بمعنى الولاء جاز فيها الفتح والكسر ، والولاية بكسر الواو الإمارة .
وسادسها : في الإجابة قال تعالى : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم [الأنفال 24] .
سابعها : في التسمية ، قال الله سبحانه وتعالى : وإن الله بكم لرءوف رحيم [الحديد 9] وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [التوبة 128] ولهذه تتمة تقدمت في آخر باب أسمائه الشريفة .
ثامنها : في الرضى ، قال الله عز وجل : والله ورسوله أحق أن يرضوه [التوبة 62] فالله رفع بالابتداء ورسوله عطف عليه ، وأحق أن يرضوه : الخبر؛ فإن قيل : جاز رد الضمير الواحد في الله وفي رسوله أحق أن يرضوه ولم يقل يرضوهما ، فالجواب أن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم رضا الله ، فترك؛ لأنه دال عليه مع الاتحاد .
الرابعة والتسعون .
وبإقسام الله تعالى ببلده ، قال تعالى : لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد [البلد 1 ، 2] .
الخامسة والتسعون .
وبإقسام الله تبارك وتعالى بعصره ، قال عز وجل : والعصر إن الإنسان لفي خسر [العصر 1 ، 2] نقل الرازي والبيضاوي وغيرهما ، أن المراد بالعصر هنا زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه المسألة من زيادتي . [ ص: 310 ]
السادسة والتسعون .
وبأن الله تعالى فرض على العالم طاعته والتأسي به فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء ، فقال جل اسمه : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر 7] وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء 80] وقال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب 21] واستثنى في التأسي بخليله ، فقال : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم إلى أن قال : إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك [الممتحنة 4] الآية .
وبأنه تعالى وصفه في كتابه عضوا عضوا فقال في وجهه : قد نرى تقلب وجهك [البقرة 144] وفي عينيه : ولا تمدن عينيك [طه 131] وفي لسانه : فإنما يسرناه بلسانك [الدخان 58] وفي يده وعنقه : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك [الإسراء 29] وفي صدره وظهره : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك [الشرح 1 ، 2 ، 3] وفي قلبه : نزله على قلبك [البقرة 97] وفي خلقه : وإنك لعلى خلق عظيم [القلم 4] .
السابعة والتسعون .
وبأنه صلى الله عليه وسلم فضل الله تبارك وتعالى مخاطبته من مخاطبة الأنبياء قبله تشريفا له وإجلالا؛ وذلك أن الأمم كانوا يقولون لأنبيائهم : راعنا سمعك؛ فنهى الله هذه الأمة أن يخاطبوا نبيهم بهذه المخاطبة؛ فقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ، وقولوا : انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم [البقرة 104] .