الثامنة والتسعون .
يا أيها الرسول وبأنه تعالى لم يخاطبه في القرآن باسمه بل : يا أيها النبي بخلاف غيره من الأنبياء فلم ينادهم إلا بأسمائهم كما قال تعالى في حق غيره : يا آدم ، اسكن أنت وزوجك الجنة [البقرة 35] يا نوح ، إنه ليس من أهلك [هود 46] أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا [الصافات 105] يا لوط ، إنا رسل ربك [هود 81] يا داود ، إنا جعلناك خليفة في الأرض [ص 26] يا موسى ، إني أنا الله رب العالمين [القصص 30] يا زكريا ، إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى [مريم 7] يا يحيى ، خذ الكتاب بقوة [مريم 12] يا عيسى ابن مريم ، اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك [المائدة 110] وجمع في الذكر بين اسمه واسم خليله إبراهيم فسمى الخليل ، وكنى محمدا صلى الله عليه وسلم فقال : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ، وهذا النبي [آل عمران 68] فهذا غاية الإجلال [ ص: 311 ] والتعظيم صلى الله وسلم عليهما . فإن قيل : قد ذكر باسمه في قوله تعالى : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [الصف 6] وآمنوا بما نزل على محمد [محمد 2] وما محمد إلا رسول [آل عمران 144] محمد رسول الله [الفتح 29] ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [الأحزاب 40] وغير ذلك ، فكيف يتم ما تقدم ؟ فالجواب أنه إنما ذكر باسمه للتعريف بأنه الذي أخذ الله عهده على الأنبياء بالإيمان به ، ولو لم يسمه لم يعرفوه بذلك ، والنداء إنما هو بالإجلال والتعظيم ، والتسمية في مقام الخبر ، فإن قيل : فقد ناداه ب : يا أيها المزمل [المزمل 1] وب : يا أيها المدثر [المدثر 1] فالجواب : أن هذا من باب التلطيف والرفق .
وقال الإمام العلامة جمال الدين محمود بن محمد بن جملة : إن قيل : والحكمة في التصريح باسمه في حديث الأعمى الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه برفع العمى عنه فعلمه أن يقول : إلى آخره فيمكن أن يقال في الأول : إنه إنما كان كذلك؛ لأنه لما كان التعليم من جهته تواضع لربه فصرح باسمه إلى آخره . «اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد ، إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي»
وأما الثاني : فلم يذكر الاسم فيه إلا مقترنا بالتعظيم ، وهو وصفه للنبي بالرحمة ، إذ المقام يقتضي ذلك ، وظهر لي ها هنا معنى حسن؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إذا ألجم الناس العرق وسألوا عن من يشفع لهم إلى ربهم فسألوا آدم فمن بعده إلى أن ينتهوا إلى عيسى ، فيقول : اذهبوا إلى محمد ، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فذكره باسمه الدال على الصفة التي يحمده بها جميع الخلائق ، وكأنه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود الذي يطلب فيه الشفاعة له علمهم أن يذكروا هذا الاسم الذي هو صفته في عرصات القيامة؛ ولهذا قال في آخره : اللهم فشفعه في وحين يأتي في ذلك اليوم ، ويخر لربه ساجدا ، يقول له ربه سبحانه وتعالى : يا محمد ارفع رأسك ، وقل تسمع إلى آخره فيناديه سبحانه وتعالى باسمه : يا محمد ، لما تقدم من المعنى ، وفي الدنيا يناديه البارئ تعالى ب : يا أيها النبي يا أيها الرسول فانظر إلى هذا التعظيم العظيم ينادي في كل مقام بأشرف تعظيم يناسبه ذلك المقام ، ففي الدنيا بالنبوة والرسالة يشهد له بهما ، وفي الآخرة لما تحقق الخلائق ناداه باسمه لما اشتمل عليه من المعنى المناسب لذلك المقام ، وخص هذا الاسم من بين الأسماء ، ليشهد له أيضا سبحانه وتعالى بما دل عليه من المعنى المناسب لذلك اليوم وكيفا سبحانه وتعالى بما دل على صفة يحمده بها الخلق ليستدل بالنداء بها صلى الله عليه وسلم على قبول شفاعته ثم عقب ذلك سبحانه وتعالى بقوله : فهو تكريم بعد تكريم ، وتعظيم بعد تعظيم ، وتفخيم بعد تفخيم . [ ص: 312 ] قل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه؛
التاسعة والتسعون .
وبأنه تعالى حرم على الأمة نداءه باسمه بخلاف سائر الأمم ، فإن أممهم كانت تخاطبهم بأسمائهم كما حكاه الله تعالى عنهم في القرآن ، فقال تعالى لهذه الأمة : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [النور 63] .
روى عن أبو نعيم رضي الله عنهما في الآية قال : كانوا يقولون : يا ابن عباس محمد ، يا أبا القاسم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك إعظاما لنبيه ، فقالوا : يا نبي الله ، يا رسول الله ، وروى عن البيهقي علقمة بن الأسود رضي الله عنه في الآية قال : لا تقولوا : يا محمد ، ولكن قولوا : يا رسول الله ، يا نبي الله .
وروى في الآية قال : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يعظم ، ويسود ، وأما قول حماد أن ثعلبة قال له : يا محمد ، فلعله كان قبل النهي عن مخاطبته باسمه؛ إذ رأى إنما جاء لأسباب الرسالة ولوازمها؛ فلهذا لم يخاطبه بها . أبو نعيم
مائة .
وبأنه يكره أن يقال في حقه الرسول ، بل رسول الله؛ لأنه ليس فيه من التعظيم ما في الإضافة . قاله رضي الله عنه . الشافعي
الواحدة بعد المائة .
وبأنه فرض على من ناجاه أن يقدم بين يدي نجواه صدقة ثم نسخ ذلك ، قال الله سبحانه وتعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة [المجادلة 12] .
روى عن ابن أبي حاتم رضي الله عنهما في الآية قال : إن المسلمين أكثروا المسألة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما قال ذلك خف كثير من الناس وكفوا عن المسألة ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ابن عباس أأشفقتم [المجادلة 13] الآية فوسع الله عليهم ولم يضيق .
روى عن سعيد بن منصور قال : كان من ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدق بدينار ، وكان أول من صنع ذلك علي بن أبي طالب ، ثم نزلت الرخصة مجاهد فإذ لم تفعلوا ، وتاب الله عليكم [المجادلة 13] .
الثانية بعد المائة .
. [ ص: 313 ] وبأنه لم يره الله تعالى في أمته شيئا يسوءه حتى قبضه بخلاف سائر الأنبياء
الثالثة بعد المائة .
وبأنه حبيب الرحمن .
الرابعة بعد المائة .
وبأنه جمع له بين المحبة والخلة .
روى البيهقي عن وابن عساكر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة «اتخذ الله إبراهيم خليلا ، وموسى نجيا ، واتخذني حبيبا ، ثم قال : وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي» .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن وأبو يعلى في حديث المعراج أبي هريرة «فقال له ربه : قد اتخذتك خليلا ، وهو مكتوب في التوراة : محمد حبيب الرحمن»
وتقدم بيان ذلك كله في أسمائه الشريفة .
الخامسة بعد المائة .
وبأنه جمع له بين الكلام والرؤية .
السادسة بعد المائة .
وبأنه كلمه عند سدرة المنتهى وكلم موسى بالجبل ، عد هذه ابن عبد السلام ، وتقدم بيان ذلك في باب المعراج .
السابعة بعد المائة .
وبأنه جمع له بين القبلتين كما تقدم بيان ذلك في الحوادث ، والله أعلم .
الثامنة بعد المائة .
وبأنه جمع له بين الهجرتين [والقبلتين] قلت : النبي صلى الله عليه وسلم لم يهاجر إلا هجرة واحدة إلى المدينة فقط ، ولم أفهم ما المراد بالهجرة الثانية ، فإن أريد بها هجرة أصحابه إلى الحبشة ففيه نظر ، والله تعالى أعلم .
التاسعة بعد المائة .
وبأنه جمع له بين الحكم بالظاهر والباطن ، والعمل بمقتضى كل منهما خصوصية له تفرد بها عن سائر الخلق . أما أولياء أمته فليس لهم العمل بالحقيقة ولا الحكم بمقتضاها بإجماع المسلمين ، وإنما يعملون بالشريعة فقط .
قال القرطبي : ، وقال [ ص: 314 ] أجمع العلماء على بكرة أبيهم أنه لا يجوز للحاكم أن يقتل بعلمه اختص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان له قتل من اتهمه بالزنى من غير بينة ، ولا يجوز ذلك لغيره . انتهى . ابن دحية :
ولو رفع إلينا ولي قتل غلاما أبواه مؤمنان ، واحتج على ذلك بأنه كشف له أنه طبع كافرا لقتلناه ، قصاصا بحكم الشرع بالإجماع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد من أمته أن يقتل بحكم الحقيقة في قتل ولا غيره ، ولو أراد أحد من أرباب الكشف أن يقتدي بإمام بينه وبينه حائل في غير المسجد لمنع صحة الاقتداء ، لحكمنا ببطلان صلاته ، ولم نعرج على ما يقع له من الكشف الذي يرفع فيه الجدر وتزال فيه الحجب؛ لأن الأولياء وغيرهم مكلفون بالعمل بالشرع ، وقد نص أهل الحقيقة على أنه لا يعمل بالحقيقة ، وإنما هي علم لا عمل ، فلم يكن لأحد من الأولياء مساواة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأما الأنبياء فمنهم من بعثه تعالى ليحكم بالشريعة فقط ، ويعمل بها ، كموسى عليه الصلاة والسلام ، ولم يأذن له أن يحكم بالحقيقة ، ولا يعمل بها ، وإن علمها ، ومنهم من بعثه ليحكم بالحقيقة فقط ، ويعمل بها كالخضر عليه الصلاة والسلام ، ولم يأذن له أن يحكم بالشريعة ، وإن علمها ، ويبعث الله تعالى من يشاء من أنبيائه بما يشاء .
وقال شيخ الإسلام البلقيني في «شرح في قول البخاري» الخضر لموسى : إني على علم من الله علمنيه لا ينبغي لك أن تعلمه ، وأنا على علم من علم الله علمكه الله لا ينبغي لي أن أعلمه .
هذا قد يشكل بأن العلم المذكور في الجهتين ، كيف لا ينبغي أن يعلمه ، قال : وجواب هذا حمل العلم على تنفيذه ، والمعنى لا ينبغي لك أن تعلمه لتعمل به؛ لأن العمل به مناف لمقتضى الشرع ، ولا ينبغي لي أن أعلمه فأعمل بمقتضاه؛ لأنه مناف (لمقتضى ) الحقيقة ، (قال : فعلى هذا لا يجوز للولي التابع للنبي صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على الحقيقة أن ينفذ ذلك بمقتضى الحقيقة ) وإنما عليه أن ينفذ الظاهر .
قال الحافظ في «الإصابة» : قال أبو حيان في تفسيره : الجمهور على أن الخضر نبي ، وكان علمه بمعرفة بواطن أوحيت إليه ، وعلم موسى الحكم بالظاهر ، فأشار إلى أن المراد في الحديث بالعلمين الحكم بالظاهر والباطن لا أمر آخر .
وقد قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي : إن الذي بعث به الخضر عليه السلام شريعة له؛ فالكل شريعة ، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أمر أولا أن يحكم بالظاهر دون ما اطلع عليه من الباطن [ ص: 315 ] والحقيقة ، كغالب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قال : وفي لفظ : «نحن نحكم بالظاهر» . «إنما أقضي بالظاهر ، والله يتولى السرائر»
وقال : «إنما أقضي بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار»
وقال للعباس : «أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله تعالى»
وقال في تلك المرأة : «لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها»
وقال أيضا : «لولا القرآن لكان لي ولها شأن»
فهذا كله صريح في أنه إنما يحكم بظاهر الشرع بالبينة أو الاعتراف دون ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور وحقائقها ، ثم إن الله تبارك وتعالى زاده شرفا ، وأذن له أن يحكم بالباطن ، وما اطلع عليه من حقائق الأمور ، فجمع له بين ما كان للأنبياء ، وما كان للخضر خصوصية خصه الله بها ، ولم يجمع الأمران لغيره .