الباب الثامن وفيه نوعان فيما اختص به-صلى الله عليه وسلم- عن أمته من الفضائل والكرامات ،
الأول : فيما يتعلق بالنكاح . وفيه مسائل : الأولى : خص -صلى الله عليه وسلم- بأن النكاح في حقه عبادة مطلقا كما قال السبكي وهو في حق غيره ليس بعبادة عندنا بل مباح من المباحات والعبادة عارضة له .
الثانية : وبأن مهر المثل لا يتصور في ابنته ، لأنها لا مثل لها نقل عن وهو حسن بليغ . البكري ،
الثالثة : وبتحريم رؤية أشخاص أزواجه في الأزر كما صرح به واستدل بما في الموطأ أن القاضي عياض ، لما توفي حفصة سترها الناس عن أن يرى شخصها ، وأن عمر لما توفيت جعلت في القبة فوق نعشها لتستر شخصها قلت : قال الحافظ وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهم ولقد كن بعد ذلك يخرجن ويعظن ، وكانت الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص وفي صحيح البخاري في "الحج" قول زينب بنت جحش ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف أقبل الحجاب أو بعده قال : أي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب . عائشة
الرابعة : قيل : وبأنهن إذا أرضعن الكبير دخل عليهم ، وسائر الناس لا يكون إلا ما كان في الصغر قاله معمر .
الخامسة : وبأنه كان لهن رضعات معلومات ولسائر النساء رضعات معلومات ، قاله طاووس ، وورد أنها عشر رضعات لهن ، ولغيرهن خمس .
السادسة : وبأن زوجاته أمهات المؤمنين سواء متن في حياته ، أو مات عنهن .
قال الله تعالى : وأزواجه أمهاتهم [الأحزاب - 6] قال الإمام الشافعي-رحمه الله تعالى- ، وذلك لأنه لا يحل نكاحهن بحال ولا تحرم بناتهن لو كن لهن ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد زوج بناته وهن أخوات المؤمنين . انتهى .
[ومعنى هذا أن إطلاق الأمومة عليهن بالنسبة إلى تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن ولا يثبت لهن حكم الأمومة في جواز النظر والخلوة والمسافرة ، ولا في النفقة ، والميراث وأمومتهن لا تتعدى إلى أحوال المسلمين وحالاتهم ونقل في الروضة عن البغوي . [ ص: 448 ]
أنهن كن أمهات المؤمنين من الرجال دون النساء [لأن فائدة الأمومة في حق الرجال ، وهي النكاح مفقودة في حق النساء] .
رواه عن ابن أبي حاتم رضي الله تعالى عنها- . عائشة-
السابعة : قيل وبتحريم خروجهن لحج أو عمرة ، ووجوب جلوسهن بعده في البيوت في أحد قولين قال الله تعالى : وقرن في بيوتكن [الأحزاب - 33] .
روى ابن سعد عن رضي الله تعالى عنه- قال : أبي هريرة- سودة وزينب قالتا : لا تحركنا دابة بعد رسول الله . قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنسائه في حجة الوداع "هذه الحجة ثم ظهور الحصر" قال : وكن يحججن كلهن إلا
الثامنة : وبأن من فارقها في حياته كالمستعيذة وكالتي رأى بكشحها بياضا تحرم على غيره على الأرجح في الروضة ، ونص عليه رضي الله تعالى عنه- في أحكام القرآن . الإمام الشافعي-
قال إنه أخذ بظاهر القرآن ، وقال وهو ظاهر نص الشافعي-رحمه الله تعالى- . ابن الصلاح :
التاسعة : وبتحريم نكاح أمة وطأها ومات عنها كأم إبراهيم وإن لم تصر أما للمؤمنين لنقصها (بالرق ) .
العاشرة : وإن باعها بقي تحريمها .
الحادية عشر : وبتفضيل زوجاته على سائر النساء ، قال الله- سبحانه وتعالى- يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن [الأحزاب - 32] قال يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات أنتن أكرم علي ، وثوابكن أعظم لدي وذلك لما خصهن الله- تعالى- به من خلوة رسوله ونزول الوحي بينهن . ابن عباس :
وقيل : لاصطفائهن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أزواجا في الدنيا والآخرة .
واختلفوا هل المراد بتفضيلهن على سائر النساء من أهل زمانهن وما بعده أو أعم من ذلك على قولين حكاهما الماوردي والروياني .
الثانية عشر : وبأنه لا يحل أن يسأل زوجاته -صلى الله عليه وسلم- إلا من وراء حجاب قال الله- سبحانه وتعالى- وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب [الأحزاب - 53] . [ ص: 449 ]
قال القاضي : والنووي في شرح خصص بفرض الحجاب عليهم بلا خلاف في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا في غيرها . مسلم
الثالثة عشر : وبأن بناته -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز التزوج عليهن .
روى الشيخان عن سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول : وهو على المنبر المسور بن مخرمة بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم "فلا آذن ، ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد علي بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها" علي بن أبي طالب . إن
قال الحافظ لا يبعد أن يكون من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- منع التزوج على ابنته انتهى . وبه صرح الشيخ أبو علي السنجي في "شرح التلخيص" أنه يحرم التزوج على بناته -صلى الله عليه وسلم- .
قال المحب الطبري ولعله يريد من ينسب إليه بالنبوة ، ويدل له ما رواه الإمام أحمد ، عن والحاكم عبيد الله بن أبي رافع برجال ثقات عن والطبراني أم بكر بنت المسور- فيحرر حالها- إنه بعث إليه المسور بن مخرمة حسن بن حسن يخطب ابنته فقال للرسول قل له : يوافيني في وقت ذكره فلقيه فحمد الله المسور فقال : والله ما من نسب ولا سبب ولا صهر أحب إلي منكم ، وفي لفظ من نسبكم وصهركم ، وفي لفظ محبة ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها فإنه ينقطع يوم القيامة الأنساب إلا نسبي وشيعتي" وفي لفظ وعندك ابنتها ولو زوجتك لقبضها ذلك . فاذهب عاذرا له . عن
قال المحب الطبري : وفي هذا دليل على أن الميت يراعى منه ما يراعى من الحي .
قال الشيخ : فإن أخذ هذا على عمومه فمقتضاه أنه يحرم التزوج على بناته إلى يوم القيامة وفيه وقفة .
الرابعة عشر : وبأنه أعطى قوة أربعين في الجماع والبطش .
روى عن البخاري عن قتادة رضي الله تعالى عنه- قال : أنس- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدور على نسائه في الساعة الواحدة وهن إحدى عشرة ، قلت لأنس أو كان يطيقه ، قال : كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين .
روى ابن سعد عن مجاهد وطاووس قالا : أعطي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوة أربعين رجلا في الجماع .
وروى عن الطبراني رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنس- [ ص: 450 ] فضلت على الناس بأربع بالسماحة ، والشجاعة ، وكثرة الجماع ، والبطش .
وروى عن مقاتل- رضي الله تعالى عنه- قال : أعطي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعا وسبعين شابا .
روى الحارث بن أبي أسامة عن قال : أعطي قوة بضع أربعين رجلا ، كل رجل من أهل الجنة . مجاهد
وقوة الرجل من أهل الجنة كمائة من أهل الدنيا فيكون أعطي قوة أربعة آلاف ، وبهذا يدفع ما استشكل بعضهم ، فقال : كيف يعطى قوة أربعين فقط ؟ وقد أوتي سليمان قوة مائة أو ألف رجل على ما ورد ؟ واحتاج إلى تكلف الجواب عن ذلك .
وروى ابن سعد بسند جيد عن رضي الله تعالى عنه- مرسلا قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : صفوان بن سليم- جبريل بقدر فأكلت منها فأعطيت قوة أربعين رجلا في الجماع" وفي لفظ "فما أريد أن آتي النساء ساعة إلا فعلت" . "أتاني
وروى ابن عدي وابن سعد موصولا بسند واحد .
قال قد آتى الله- تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- خصيصة عظمى ، وهي قلة الأكل ، والقدرة على الجماع ، فكان أقنع الناس في الغداء تقنعه الفلقة وتشبعه التمرة ، وكان أقوى الناس على الوطء . القاضي أبو بكر بن العربي
النوع الثاني فيما يتعلق بغير النكاح وفيه مسائل : الأولى : خص -صلى الله عليه وسلم- بأنه كان ينظر من وراء ظهره كما ينظر قدامه .
روى الشيخان عن رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : أبي هريرة- . "هل ترون قبلتي ها هنا ؟ فو الله لا يخفى علي ركوعكم وخشوعكم وإني لأراكم من وراء ظهري"
ورواه الإمام مالك عنه بلفظ : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : وأحمد "والذي نفسي بيده إني لأنظر من ورائي كما أنظر إلى ما بين يدي فصفوا صفوفكم وأحسنوا ركوعكم"
والأحاديث في ذلك كثيرة .
وقال المحققون : والصواب أن هذه الأحاديث على ظاهرها ، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به -صلى الله عليه وسلم- انخرقت له فيه العادة ، وهو مقتضى صنيع حيث أخرج هذا الحديث في علامات النبوة ، وكذا نقل عن البخاري ، وغيره وهو ظاهر رواية الإمام أحمد "إني لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي" مسلم
ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عنه انخرقت له العادة فيه أيضا ، فكان يرى بها من غير مقابلة ، لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها [ ص: 451 ]
عقلا عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قربا وإنما ذلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلا ولذلك حكموا بجواز رؤية الباري- سبحانه وتعالى- في الدار الآخرة خلافا لأهل البدع .
وقيل : كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره .
نقله الزاهدي نجم الدين مختار بن محمود الحنفي "شارح القدوري" في "رسالته الناصرية" .
الثانية : وتطوعه بالصلاة قاعدا بلا عذر كتطوعه قائما -صلى الله عليه وسلم- .
روى مسلم عن وأبو داود رضي الله تعالى عنهما- قالت ابن عمر- . أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدته يصلي جالسا فقلت : يا رسول الله إنك قلت صلاة الرجل قاعدا على نصف الصلاة قائما وأنت تصلي قاعدا ؟ قال "أجل ولكني لست كأحد منكم"
قال النووي : قوله -صلى الله عليه وسلم- "لست كأحد منكم" عند أصحابنا من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فجعلت نافلته قاعدا مع القدرة على القيام كنافلته قائما تشريفا له كما خص بغيرها ، وقال القاضي معناه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لحقه مشقة شديدة من القيام لحطم الناس والسن وكان أجره تاما بخلاف غيره ممن لا عذر له .
قال النووي : هذا ضعيف أو باطل ، لأن غيره -صلى الله عليه وسلم- أن كان معذورا فثوابه أيضا كامل وإن كان هو أيضا قادرا على القيام فليس هو كالمعذور يبقى فيه تخصيص فلا يحسن على هذا التقدير : لست كأحد منكم وإطلاق هذا القول ، فالصواب ما قاله أصحابنا : إن نافلته -صلى الله عليه وسلم- قاعدا مع القدرة على القيام ثوابها كثوابه قائما وهو من الخصائص وتعقبه الزركشي مما لا يساوي سماعه .
الثالثة : وبأن عمله له نافلة .
روى بسند صحيح الإمام أحمد رضي الله تعالى عنها- أنها سئلت عن صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت : أتعملون كعمله فإنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، كان عمله له نافلة . عائشة- عن
وتقدمت أحاديث في المسألة السابعة والعشرين من فضل الواجبات ما يتعلق بذلك
الرابعة : وبأن المصلي يخاطبه بقوله : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولا يخاطب سائر الناس وهو ثابت في حديث التشهد ومخاطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك واجبة على الصحيح .
قال السبكي السلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نوعين . [ ص: 452 ]
الأول : ما يقصد به الدعاء بالتسليم عليه من الله سواء كان بلفظ الغيبة أو الحضور كقولنا عليه الصلاة والسلام ويا رسول الله صلى الله عليك وسلم أو عليك الصلا والسلام سواء كان من الغائب عنه أو الحاضر عنه ، وهذا هو الذي قيل باختصاصه -صلى الله عليه وسلم- عن الأمة حتى لا يسلم على غيره من الأمة : إلا تبعا كالصلاة عليه فلا يقال فلان- عليه السلام- .
الثاني : ما يقصد به التحية كسلام الزائر إذا وصل إلى قبره وهو غير مختص به بل يعم الأمة وهو الرد على المسلم بنفسه أو برسوله فيحصل ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- ، وأما الأول : فالله أعلم فإن ثبت امتاز الثاني بالقرب والخطاب وإلا فقد جزم من يرد هذه الفضيلة وهو مقتضى ما فسر به الحديث الإمام الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقبري أحد أكابر شيوخ حيث قال في قوله : البخاري ، وأما حديث "ما من أحد يسلم علي" الحديث هذا في الزيارة "إذا زارني فسلم علي رد الله علي روحي حتى أرد عليه" "أتاني ملك فقال يا محمد أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا"
فالظاهر أنه في السلام على النوع الأول .
قال الله- سبحانه وتعالى- : الخامسة : وبتحريم رفع الصوت على صوته ، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض [الحجرات - 2] فنهى الله تعالى عن رفع الصوت فوق صوته وشدد النهي بقوله أن تحبط أعمالكم [الحجرات - 2] لارتكابكم لهذا الذنب فدل ذلك على أنه حرام بل كبيرة ، لأنه توعدهم على ذلك بإحباط العمل .
قال الإمام الرازي والأصح أن المراد به رفع الصوت حقيقة لأن رفع الصوت دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام .
قال العلماء : ومعنى الآية الأمر بتعظيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم وجهره باهرا لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته واضحة .
قال في تفسيره وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة ، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من حرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر به الكبراء فيتكلف الغض منه [ ص: 453 ] ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزيز والتوقير ، ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك . القرطبي :