الخامس : في الخوارج إلى قوله وانصرافهم عن قتال رضي الله تعالى عنه علي رجوع بعض
روى بكار بن قتيبة في "مشيخته" عن -رضي الله تعالى عنها- قال : اجتمعت ابن عباس الخوارج وهم ستة آلاف ، وفي لفظ : أربعة وعشرون ألفا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أبرد بالصلاة ، لعلي ألقى مولى القوم فقال : إني أخافهم عليك ، فقلت : كلا إن شاء الله فلست أحسن ما أقدر عليه من هذه المجانبة ، ثم دخلت عليهم وهم قائلون في حر الظهيرة ، فدخلت على قوم لم أر أقواما قط أشد اجتهادا منهم ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم" الحديث .
فلما دخلت قالوا : مرحبا بك يا ما جاء بك ؟ قلت : جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل الوحي ، وهم أعلم بتأويله ، فقال بعضهم : لا تحدثوه ، وقال بعضهم : لنحدثنه ، قلت : أخبروني ما تنقمون عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه ، وأول من آمن به ، وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالوا : ننقم عليه ثلاثا ؟ قلت : وما هن ؟ قالوا : أولهن أنه حكم الرجال في دين الله -عز وجل- وقد قال الله -عز وجل- : ابن عباس ، إن الحكم إلا لله [الأنعام : 57] قال : قلت : وماذا ؟ قالوا : قاتل ولم يسب ولم يغنم ، لئن كانوا كفارا لقد حلت أموالهم ، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم ، قال : قلت : وماذا ؟ قالوا : محا نفسه من أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين .
قال : قلت : إن قرأت عليكم من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا تنكرون أترجعون ؟ قالوا : نعم ، قال : إنه حكم الرجال في دين الله -عز وجل- فإن الله تعالى يقول : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم إلى قوله : يحكم به ذوا عدل منكم [المائدة : 95] وقال تعالى في المرأة وزوجها : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [النساء : 35] أنشدكم الله الحكم للرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق أم في بيت ثمنها ربع [ ص: 127 ] درهم ، قال : أخرجتم من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم .
وأما قولكم : قاتل ولم يسب ولم يغنم ، فإن مقاتلهم لخلع الطاعة .
السادس : في أنه كان يقرئ جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم
روى الشيخان عنه قال : المهاجرين ، منهم فبينما أنا في منزله عبد الرحمن بن عوف ، بمنى ، وهو عند في آخر حجة حجها ، إذ رجع إلي عمر بن الخطاب ، عبد الرحمن فقال : لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك في فلان ؟ يقول : لو قد مات لقد بايعت فلانا ، فوالله ما كانت بيعة عمر إلا فلتة فتمت ، فغضب أبي بكر ثم قال : إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس ، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم . قال عمر ، عبد الرحمن : فقلت : يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير ، وأن لا يعوها ، وأن لا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة ، فإنها دار الهجرة والسنة ، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس ، فتقول ما قلت متمكنا ، فيعي أهل العلم مقالتك ، ويضعونها على مواضعها . فقال أما والله - إن شاء الله - لأقومن بذلك أول مقام أقومه عمر : بالمدينة . قال فقدمنا ابن عباس : المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس ، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر ، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج فلما رأيته مقبلا ، قلت عمر بن الخطاب ، لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف ، فأنكر علي وقال : ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله ، فجلس على المنبر ، فلما سكت المؤذنون قام ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي : إن الله بعث عمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم . ألا ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم ، وقولوا : عبد الله ورسوله " ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول : والله لو قد مات بايعت فلانا ، فلا يغترن امرؤ أن يقول : إنما كانت بيعة عمر فلتة وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ، ولكن [ ص: 128 ] الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرة أن يقتلا ، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن أبي بكر ، الأنصار خالفونا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى فقلت أبي بكر ، يا لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من أبا بكر الأنصار ، فانطلقنا نريدهم ، فلما دنونا منهم ، لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا ما تمالأ عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : لا عليكم أن لا تقربوهم ، اقضوا أمركم ، فقلت : والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى أتيناهم في [ص : 170] سقيفة بني ساعدة ، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا فقلت : ما له ؟ قالوا : يوعك ، فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر سعد بن عبادة ، المهاجرين رهط ، وقد دفت دافة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، وأن يحضنونا من الأمر . فلما سكت أردت أن أتكلم ، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي وكنت أداري منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم ، قال أبي بكر ، على رسلك ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبو بكر : فكان هو أحلم مني وأوقر ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري ، إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت ، فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من أبو بكر قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد وهو جالس بيننا ، فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي ، لا يقربني ذلك من إثم ، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبي عبيدة بن الجراح ، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن . فقال قائل من أبو بكر ، الأنصار : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ، منا أمير ، ومنكم أمير ، يا معشر قريش . فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا فبسط يده فبايعته ، وبايعه أبا بكر ، المهاجرون ثم بايعته الأنصار . ونزونا على فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت : قتل الله سعد بن عبادة ، قال سعد بن عبادة ، وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة عمر : خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة : أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا ، فإما بايعناهم على ما لا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد ، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين ، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه ، تغرة أن يقتلا . أبي بكر ، كنت أقرئ رجالا من
[ ص: 129 ] وروى عن ابن حبان رافع قال : كان خليطا ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- كان من أهله ، وكان يقرؤه القرآن . لعمر بن الخطاب