الباب الثامن في عصمته صلى الله عليه وسلم في جوارحه
قال : وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال ، ولا يخرج من جملتها القول باللسان فيما عدا الخبر الذي وقع فيه الكلام والاعتقاد بالقلب فيما عدا التوحيد ، وما قدمناه من معارفه المختصة به- فأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات . ومستند الجمهور في ذلك الإجماع الذي ذكرناه . القاضي عياض
وهو مذهب القاضي أبي بكر ، ومنعها غيره بدليل العقل مع الإجماع ، وهو قول الكافة .
واختاره الأستاذ أبو إسحاق .
وكذلك لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة والتقصير في التبليغ ، لأن كل ذلك تقتضي العصمة منه المعجزة ، مع الإجماع على ذلك من الكافة .
[والجمهور قائلون بأنهم معصومون من ذلك من قبل الله ، معتصمون باختيارهم وكسبهم ، إلا حسينا النجار ، فإنه قال : لا قدرة لهم على المعاصي أصلا .
وأما الصغائر فجوزها جماعة من السلف وغيرهم على الأنبياء ، وهو مذهب أبي جعفر الطبري وغيره من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين .
وذهبت طائفة أخرى إلى الوقف ، وقالوا : العقل لا يحيل وقوعها منهم ، ولم يأت في الشرع قاطع بأحد الوجهين .
وذهبت طائفة أخرى من المحققين والمتكلمين إلى ، قالوا : لاختلاف الناس في الصغائر وتعيينها من الكبائر وإشكال ذلك ، وقول عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر وغيره : أن كل ما عصي الله به فهو كبيرة ، وإنه إنما سمي منها الصغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ، ومخالفة الباري في أي أمر كان يجب كونه كبيرة . ابن عباس
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال : إن في معاصي الله صغيرة إلا على معنى أنها تغتفر باجتناب الكبائر ، ولا يكون لها حكم مع ذلك ، بخلاف الكبائر إذا لم يتب منها فلا يحبطها شيء . والمشيئة في العفو عنها إلى الله تعالى ، وهو قول القاضي أبي بكر وجماعة أئمة الأشعرية وكثير من أئمة الفقهاء .
قال القاضي رحمه الله وقال بعض أئمتنا : ولا يجب على القولين أن يختلف أنهم معصومون عن تكرار الصغائر وكثرتها ، إذ يلحقها ذلك بالكبائر ، ولا في صغيرة أدت إلى إزالة الحشمة ، وأسقطت المروءة ، وأوجبت الازراء والخساسة ، فهذا أيضا مما يعصم عنه الأنبياء [ ص: 465 ]
إجماعا ، لأن مثل هذا يحط منصبه المتسم به ، ويزري بصاحبه ، وينفر القلوب عنه ، والأنبياء منزهون عن ذلك . بل يلحق بهذا ما كان من قبل المباح ، فأدى إلى مثله ، لخروجه بما أدى إليه عن اسم المباح إلى الحظر .
وقد ذهب بعضهم إلى عصمتهم من مواقعة المكروه قصدا . وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم ، واتباع آثارهم وسيرهم مطلقا .
وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب مالك والشافعي من غير التزام قرينة ، بل مطلقا عند بعضهم ، وإن اختلفوا في حكم ذلك . وأبي حنيفة
وحكى ابن خويز منداد وأبو الفرج ، عن ، التزام ذلك وجوبا ، وهو قول مالك الأبهري وابن القصار وأكثر أصحابنا .
وقول أكثر أهل العراق وابن سريج ، والإصطخري ، وابن خيران من الشافعية . وأكثر الشافعية على أن ذلك ندب .
وذهبت طائفة إلى الإباحة .
وقيد بعضهم الاتباع فيما كان من الأمور الدينية وعلم به مقصد القربة .
ومن قال بالإباحة في أفعاله لم يقيد . قال : فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم ، إذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده من القربة أو الإباحة ، أو الحظر ، أو المعصية . ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى من الأصوليين تقديم الفعل على القول إذا تعارضا . [ ص: 466 ]