[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
في جماع أبواب ما يخصه -صلى الله عليه وسلم- من الأمور الدنيوية وما يطرأ عليه من العوارض البشرية وكذا سائر الأنبياء
الباب الأول في حاله في جسمه صلى الله عليه وسلم
قال القاضي : فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم من العوارض البشرية قد قدمنا لأن الشيء إنما يسمى ناقصا بالإضافة إلى ما هو أتم منه وأكمل من نوعه ، وقد كتب الله تعالى على أهل هذه الدار : أنه -صلى الله عليه وسلم- وسائر الأنبياء والرسل من البشر ، وأن جسمه وظاهره خالص للبشر ، يجوز عليه من الآفات والتغييرات ، والآلام والأسقام ، وتجرع كأس الحمام ما يجوز على البشر ، وهذا كله ليس بنقيصة فيه؛ فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون وخلق جميع البشر بمدرجة الغير؛ فقد مرض صلى الله عليه وسلم ، واشتكى ، وأصابه الحر والقر ، وأدركه الجوع والعطش ، ولحقه الغضب والضجر ، وناله الإعياء والتعب ، ومسه الضعف والكبر ، وسقط فجحش شقه ، وشجه الكفار ، وكسروا رباعيته ، وسقي السم ، وسحر ، وتداوى ، واحتجم ، وتنشر وتعوذ ، ثم قضى نحبه فتوفي صلى الله عليه وسلم ، ولحق بالرفيق الأعلى ، وتخلص من دار الامتحان والبلوى ، وهذه سمات البشر التي لا محيص عنها ، وأصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منه؛ فقتلوا قتلا . ورموا في النار ، ووشروا بالمناشير . ومنهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات . ومنهم من عصمه كما عصم بعد نبينا من الناس ، فلئن لم يكف نبينا ربه يد ابن قميئة يوم أحد ، ولا حجبه عن عيون عداه عند دعوته أهل الطائف ، فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور ، وأمسك عنه سيف غورث ، وحجر أبي جهل ، وفرس سراقة ، ولئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم ، من سم اليهودية .
وهكذا سائر أنبيائه مبتلى ومعافى ، وذلك من حكمته ، ليظهر شرفهم في هذه المقامات ، ويبين أمرهم ، ويتم كلمته فيهم ، وليحقق بامتحانهم بشريتهم ، ويرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم؛ لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم ، وليكون في محنهم تسلية لأممهم ، ووفور لأجورهم عند ربهم تماما على الذي أحسن إليهم .
[ ص: 4 ]
قال بعض المحققين : وهذه الطوارئ والتغييرات المذكورة إنما تختص بأجسامهم البشرية ، المقصود بها مقاومة البشر ، ومعاناة بني آدم لمشاكلة الجنس .
وأما بواطنهم فمنزهة غالبا عن ذلك ، معصومة منه ، متعلقة بالملإ الأعلى والملائكة لأخذها عنهم ، وتلقيها الوحي منهم .
قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي .
وقال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني .
وقال : لست أنسى ، ولكن أنسى ، ليستن بي .
فأخبر أن سره وباطنه وروحه بخلاف جسمه وظاهره ، وأن الآفات التي تحل ظاهره من ضعف وجوع ، وسهر ونوم ، لا يحل منها شيء باطنه ، بخلاف غيره من البشر في حكم الباطن؛ لأن غيره إذا نام استغرق النوم جسمه وقلبه ، وهو صلى الله عليه وسلم في نومه حاضر القلب كما هو في يقظته حتى قد جاء في بعض الآثار أنه كان محروسا من الحدث في نومه؛ لكون قلبه يقظان كما ذكرناه .
وكذلك غيره إذا جاع ضعف لذلك جسمه ، وخارت قوته ، فبطلت بالكلية جملته ، وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبره أنه لا يعتريه ذلك ، وأنه بخلافهم .
لقوله : لست كهيئتكم : إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني .
وكذلك أقول : إنه في هذه الأحوال كلها؛ من وصب ومرض ، وسحر وغضب ، لم يجز على باطنه ما يخل به ، ولا فاض منه على لسانه وجوارحه ما لا يليق به ، كما يعتري غيره من البشر مم نأخذ بعد في بيانه .
((فإن قلت)) : فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم سحر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتابي بقراءتي عليه ، قال : حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن علي بن خلف ، حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا حدثنا البخاري ، عبيد بن إسماعيل ، قال :
حدثنا أبو أسامة ، عن عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، رضي الله عنها ، قالت : عائشة
سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله . وفي رواية أخرى : الحديث . وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ؟ وكيف جاز عليه- وهو معصوم . [ ص: 5 ] حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء ولا يأتيهن . . .
فاعلم- وفقنا الله وإياك- أن هذا الحديث صحيح متفق عليه ، وقد طعنت فيه الملحدة ، وتدرعت به لسخف عقولها وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع ، وقد نزه الله الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبسا وإنما السحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل ، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته .
وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته ، أو يقدح في صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا ، وإنما هذا فيما يجوز طروؤه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ، ولا فضل من أجلها ، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه ، كما كان .
وأيضا فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله : حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن .
وقد قال سفيان- وهذا أشد من السحر ، ولم يأت في خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ولم يفعله ، وإنما كانت خواطر وتخيلات .
وقد قيل : إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل الشيء أنه فعله ، وما فعله ، لكنه تخييل لا يعتقد صحته ، فتكون اعتقاداته كلها على السداد ، وأقواله على الصحة .
هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحناه من معنى كلامهم ، وزدناه بيانا من تلويحاتهم . وكل وجه منها مقنع ، لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعن ذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث ، وهو أن قد روى هذا الحديث عن عبد الرزاق ابن المسيب ، وقال فيه عنهما : وعروة بن الزبير ، بني زريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكر بصره ، ثم دله الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر . سحر يهود
وروي نحوه ، عن وعن الواقدي ، عبد الرحمن بن كعب ، وعمر بن الحكم .
وذكر عن عن عطاء الخراساني ، يحيى بن يعمر : سنة ، فبينا هو نائم أتاه ملكان ، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه . . . عائشة الحديث . قال حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الرزاق : خاصة سنة حتى أنكر بصره . عائشة حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
وروى محمد بن سعد ، عن ابن عباس : وذكر القصة . [ ص: 6 ] فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه ، لا على قلبه واعتقاده وعقله ، وأنه إنما أثر في بصره ، وحبسه عن وطء نسائه [وطعامه ، وأضعف جسمه وأمرضه] ، ويكون معنى قوله : يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن ، أي : يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على الإيتاء ، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر ، فلم يقدر على إتيانهن ، كما يعتري من أخذ واعترض . مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحبس عن النساء والطعام والشراب ، فهبط عليه ملكان . . .
ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله : وهذا أشد ما يكون من السحر . ويكون قول في الرواية الأخرى : إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله ، من باب اختل من بصره ، كما ذكر في الحديث ، فيظن أنه رأى شخصا من بعض أزواجه ، أو شاهد فعلا من غيره ، ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره ، لا لشيء طرأ عليه في ميزه . عائشة
وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له وتأثيره فيه ما يدخل لبسا ولا يجد به الملحد المعترض أنسا . . . ] . [ ص: 7 ]