تنبيهات
الأول : قال السهيلي -رحمه الله تعالى- : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم [التوبة 108]؛ لأنه معلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا ، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر ، وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام ، وعبد النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه تبارك وتعالى آمنا ، وابتدأ بناء المسجد فوافق رأي الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ابتداء التأريخ من ذلك اليوم ، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى : أخذ الصحابة التأريخ من الهجرة من قوله تبارك وتعالى : من أول يوم أنه أول أيام التأريخ . قال الحافظ -رحمه الله تعالى- كذا قال ، والمتبادر أن معنى قوله : من أول يوم أي : يوم دخل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة .
الثاني : إنما يؤرخ بالأشهر الهلالية التي قد تكون ثلاثين ، وقد تكون تسعا وعشرين كما ثبت في الحديث دون الشمسية الحسبية وهي ابتداء ثلاثون فتزيد عليها .
قال الله سبحانه وتعالى في قصة أصحاب الكهف : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [الكهف 25] . [ ص: 40 ]
قال المفسرون : زيادة التسعة باعتبار الهلالية ، وهي ثلاثمائة فقط هلالية ، وإنما كان التأريخ بالهلالية للحديث الصحيح : والحديث الصحيح : «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا ، وهكذا» ، «إذا رأيتموه -يعني الهلال- فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» .
وآلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من نسائه شهرا ، ودخل عليهن في التاسع والعشرين ، فقيل له : لقد آليت . فقال : الشهر تسع وعشرون .
قال الإمام البلقيني في «التدريب» : كل شهر في الشرع فالمراد به الهلال ، إلا شهر المستحاضة وتخليق الحمل .
الثالث : قال الصلاح الصفدي -رحمه الله تعالى- : رأيت بعض الفضلاء قد كتبوا بعض الشهور بشهر كذا ، وبعضها لم يكتبوا فيه شهرا ، وطلبت الحكمة في ذلك فلم أجدهم أتوا بشهر إلا مع شهر يكون أوله حرف راء وهو شهر ربيع ، وشهر رجب ، ورمضان ، ولم أدر العلة في ذلك ما هي ، ولا وجه المناسبة؛ لأنه كان ينبغي أن يحذف لفظ شهر من هذه؛ لأنه يجتمع في ذلك راءان .
قال الشيخ رحمه الله تعالى في كتاب «نظم العقيان في أعيان الأعيان» : قد تعرض للمسألة من المتقدمين ابن درستويه فقال في كتابه المتمم : الشهور سجلها مذكرة إلا جمادى ، وليس شيء منها يضاف إليه شهر إلا شهر ربيع ، وشهر رمضان . قلت وقال ابن خطيب الدهشة -رحمه الله تعالى- في «المصباح» : الربيع عند العرب ربيعان ربيع شهور وربيع زمان ، فربيع الشهور اثنان . قالوا : لا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ، بزيادة شهر وتنوين ربيع ، وجعل الأول والآخر وصفا تابعا من الإعراب ويجوز فيه الإضافة . . . ] .
قال الشيخ -رحمه الله تعالى- في كتابه «التاريخ» : قال المتأخرون : ويذكر "شهر" فيما أوله راء ، فيقال : شهر ربيع مثلا ، دون غيره ، فلا يقال : شهر صفر ، والمنقول عن سيبويه جواز إضافة شهر إلى كل الشهور؛ وهو المختار . انتهى .
وقال الإمام النووي- رحمه الله تعالى [وجاء من الشهور ثلاثة مضافة إلى شهر رمضان ، وشهرا ربيع . . . ] .
الرابع : إنما يؤرخ بالليالي؛ لأن الليلة سابقة على يومها إلا يوم عرفة شرعا ، قال الله تعالى : كانتا رتقا ففتقناهما [الأنبياء 30] . قالوا : ولا يكون مع الارتفاق إلا الظلام؛ فهو سابق على النور . [ ص: 41 ]
روي أن أول ما خلق الله تعالى النور والظلمة ، ثم ميز بينهما ، فجعل الظلمة ليلا ، والنور نهارا .
وقد ثبت أن القيامة لا تقوم إلا نهارا ، فدل على أن ليلة اليوم سابقة عليه ، إذ كل يوم له ليلة ، وتقدم الكلام على ذلك مبسوطا أول المعراج .
الخامس : قال في «المصباح» أرخت الكتاب بالتثقيل في الأشهر ، والتخفيف لغة حكاها ابن القطاع ، إذ جعلت له تاريخا [وهو معرب ، وقيل : عربي] وهو بيان انتهاء وقته ، ويقال : ورخت على البدل ، والتوريخ قليل الاستعمال .
السادس : اختلفوا في لفظ التاريخ هل هو عربي أو معرب .
قال صاحب نور المقاييس ، وهو مختصر كتاب «مقاييس اللغة» لابن فارس «تاريخ الكتاب» : ليس عربيا ولا سمع من فصيح .
وقال ابن فارس في «المجمل» : التواريخ والتاريخ فما تحسبهما عربية .
وقال [غيره] : التاريخ لفظ معرب أصله : ماه روز ، وسبب تعريبه أن كتب إلى أبا موسى -رضي الله تعالى عنهما- فذكر ما تقدم فجمع عمر الصحابة واستشارهم في ذلك فقال عمر الهرمزان : إن للعجم حسابا يسمونه ماه روز ينسبونه إلى ما غلب عليهم من الأكاسرة ، فعربوه وقالوا : مؤرخ وجعلوا مصدره التاريخ . واستعملوه في وجوه التصريف ، ثم بين لهم الهرمزان أن كيفية استعماله ، فقال -رضي الله تعالى عنه- : ضعوا تاريخا يتعاملون عليه ، فذكر نحو ما سبق أول الباب . عمر
وقال جماعة : هو عربي مشتق من الأرخ بفتح الهمزة وكسرها وهو ولد البقرة الوحشية ، إلا إذا كانت أنثى كانت فتى ، وقال القزاز : الأرخ البقرة التي لم ينز عليها الثيران ، والعرب تشبه بها النساء الخفرات .
وقال أبو منصور الجواليقي يقال : إن الأرخ الوقت ، والتأريخ : التوقيت .
قال ابن بري : لم يذهب أحد إلى هذا ، وإنما قال ابن درستويه : اشتقاق [الأرخ من بقر الوحش ، واشتقاق التأريخ واحد؛ لأن الفتى وقت من السن ، والتاريخ] وقت من الزمن .
وقال ابن بري : وقد أحسن كل الإحسان وجمع الأرخ والتاريخ . [ ص: 42 ]
السابع : التاريخ : تعريف الوقت ، وفي الاصطلاح : تعيين وقت ينسب إليه زمان وما بعده .
وقيل : هو يوم معلوم ينسب إليه زمان يأتي بعده .
وقيل : تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع من ظهور جولة ، أو وقوع حادثة من طوفان ، أو زلزلة ، أو نحو ذلك من الأبيات .
النوع الرابع : في حوادث السنة الأولى غير المغازي والسرايا .
فيها صلى الجمعة في طريق بني سالم بن عوف ، وهي وأول خطبة خطبها في الإسلام كما جزم به غير واحد وصاحب العيون . أول جمعة صلاها في الإسلام ،
وروى ابن إسحاق عن والبيهقي قال : أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف كانت أول خطبة خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ، أنه قام فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أما بعد : أيها الناس ، فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك ، فما قدمت لنفسك ، فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها يجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام على رسول الله ورحمة الله وبركاته» .
ثم خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى . فقال : «إن "الحمد" لله ، أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى ، قد أفلح من زينه الله تعالى في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس أنه أحسن الحديث وأبلغه ، أحبوا من أحب الله ، أحبوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملوا كلام الله تعالى وذكره ، ولا تقس عنه قلوبكم ، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي فقد سماه الله خيرته من الأعمال . ومصطفاه من العباد ، والصالح الحديث ، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، واتقوا الله حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ، فإن الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
انتهى . [ ص: 43 ]
وروى عن ابن جرير سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، أنه بلغه عن خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف :
«الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه ، وأومن به ، ولا أكفره ، وأعادي من يكفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة ، على فترة من الرسل ، وقلة من العلم ، وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ، ودنو من الساعة ، وقرب من الأجل ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا ، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة ، وأن يأمره بتقوى الله -عز وجل- فاحذروا ما حذركم الله -عز وجل- من نفسه ، ولا أفضل من ذلك نصيحة ، ولا أفضل من ذلك ذكرى ، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة ، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله تعالى من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله تعالى يكن له ذكرا ، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ، وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته ، وتوقي سخطه ، وإن تقوى الله تبيض الوجه ، وترضي الرب ، وترفع الدرجة ، خذوا بحظكم ، ولا تفرطوا في جنب الله ، قد علمكم الله كتابه ، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين ، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه ، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، ولا قوة إلا بالله ، فأكثروا ذكر الله ، واعملوا لما بعد الموت ، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله تعالى يكفه ما بينه وبين الناس ، ذلك بأن الله يقضي على الناس ، ولا يقضون عليه ، ويملك من الناس ولا يملكون منه ، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .