الثالث :
في فالغذاء إذا ورد على المعدة استحال فيها إلى جوهر شبيه بماء الكشك الثخين ، ويسمى كيلوجا ، وينجذب الصافي منه إلى الكبد ، فينطبخ فيه ، ويحصل منه شيء كالرغوة ، وشيء كالرسوب ، وقد يكون معهما شيء محترق ، إن أفرط الطبخ ، وشيء فج إن قصر الطبخ ، فالرغوة هي الصفراء الطبيعية والرسوب السوداء الطبيعية ، والمحترق صفراء غير طبيعية ، وكثيفة سوداء غير طبيعية . كيفية تولد الأخلاط ،
والفج هو : البلغم ، والمتصفي من هذه الجملة نضجا هو الدم ، فإذا انفصل هذا الدم عن الكبد تصفى أيضا عن ما فيه فضلته فينجذب إلى عرق نازل إلى الكليتين ، ومعها جزء من الدم بقدر غذاء الكليتين ، فتغذوهما ويندفع بقيتها إلى المثانة والإحليل ، وأما الدم الحسن القوام فيندفع إلى العرق الأعظم الطالع من حدبة الكبد ، فيسلك في الأوردة المتشعبة منه ، ثم في جداول الأوردة ، ثم في سواقي الجداول ، ثم في رواضع السواقي ، ثم في العروق الليفية الشعرية ثم يرشح فوهاتها في الأعضاء بتقدير العزيز الحكيم .
والغذاء جسم من شأنه أن يصير جزءا من بدن الإنسان .
روى في الكبير عن الطبراني -رضي الله تعالى عنهما- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ابن عباس «ما نبت من سحت فالنار أولى به» .
والأعضاء : أجسام تتولد من أول مزاج الأخلاط ، كما أن الأخلاط أجسام متوكدة من أول مزاج الأركان ، والأعضاء مفردة : كاللحم والعظم والعصب . ومركبة : كالوجه واليدين .
وأول الأعضاء المتشابهة الأجزاء : العظم ، وقد خلق صلبا؛ لأنه أساس البدن ، ودعامة الحركة ، ثم الغضروف ، وهو أصلب من سائر الأعضاء ، ومنفعته : أن يحسن اتصال العظام [ ص: 100 ] بالأعضاء اللينة ، ثم الأعصاب وهي أجزاء دماغية المنبت ، أو نخاعية في الهواء والمنبت ، بيض لدنة لينة في الانعطاف ، صلبة من الانفصال ، خلقت ليتم بها للأعضاء الإحساس والحركة ، ثم الأوتار وهي أجسام نبتت من أطراف العضل شبيهة بالعصب ، ثم الرباطات ، وهي أجسام شبيهة بالعصب ، ثم الشريانات ، وهي أجسام نابتة في القلب ، ممتدة مجوفة طولا ، عصبانية رباطية الجوهر ، ثم الأوردة وهي شبيهة بالشريانات ، لكنها نابتة من الكبد ، ثم الأغشية ، وهي أجسام منتسجة من ليف عصباني غير محسوس ، ثم اللحم وهو حشو جلل ، وعليه وضع هذه الأعضاء في البدن وقوتها ، ثم من الأعضاء ما هو قريب المزاج من الدم فلا يحتاج الدم في تغذيته إلى أن ينصرف في استحالات كثيرة ، ومنها ما هو بعيد المزاج عنه ، فيحتاج الدم في أن يستحيل إليه إلى أن يستحيل أولا استحالات متدرجة إلى مشاكلة جوهره كالعظم .
وقال -عليه الصلاة والسلام- : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم ينفخ فيه الروح» .
قال في المنهج السوي : واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر .
وروي فيه عن -رضي الله تعالى عنهما- : جابر بن عبد الله «أن خزيمة بن حكيم السلمي سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قرار ماء الرجل وماء المرأة ؟ وعن ما للرجل من الولد وما للمرأة ؟ وعن موضع النفس من الجسد ؟ وعن شراب المولود في بطن أمه ؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «أما ما للرجل من الولد وما للمرأة ، فإن للرجل العظام والعروق والعصب ، وللمرأة اللحم والدم والشعر ، وأما قرار ماء الرجل فإنه يخرج ماؤه من الإحليل ، وهو عرق يجري [من ظهره حتى يستقر قراره في البيضة اليسرى ، وأما ماء المرأة فإن ماءها في الثرائبية ، يتغلغل لا يزال يدنو حتى تذوق عسيلتها ، وأما موضع النفس ففي القلب ، والقلب معلق بالنياط ، والنياط تسقي العروق ، فإذا هلك القلب انقطع العرق ، وأما شراب المولود في بطن أمه ، فإنه يكون نطفة أربعين ليلة ، ثم علقة أربعين ليلة ، ومشيجا أربعين ليلة ، ونجيشا أربعين ليلة ، ثم مضغة أربعين ليلة ، ثم العظم حبيكا أربعين ليلة ، ثم جنينا ، فعند ذلك يستهل وينفخ فيه الروح ، وتجلب عليه عروق الرحم] .
قال اعلم أن الطب على نوعين : الطب القياسي : وهو طب يونان الذي يستعمل في أكثر البلاد . الخطابي :
وطب العرب والهند : وهو طب التجارب ، وأكثر ما وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هو على مذهب العرب ، إلا ما خص به من العلم النبوي من طريق الوحي ، فإن ذلك يخرق كل ما تدركه [ ص: 101 ] الأطباء ، وتعرفه الحكماء ، وكل ما فعله أو قاله في أعلى درجات الصواب ، عصمه الله أن يقول إلا صدقا حقا .
وقال ابن القيم في الهدي : كان علاجه -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أنواع :
أحدها : بالأدوية الطبيعية .
والثاني : بالأدوية الإلهية .
والثالث : بالمركب من الأمرين ، ثم قال : كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- فعل التداوي في نفسه ، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه ، ولكن لم يكن من هديه -صلى الله عليه وسلم- ولا هدي أصحابه -رضي الله تعالى عنهم- فعل هذه الأدوية المركبة ، التي تسمى أقرباذين ، بل كان غالب أدويتهم بالمفردات ، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه أو يكسر سورته ، وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك وأهل البوادي قاطبة ، وإنما عنى بالمركبات الروم واليونان ، وقد اتفق الأطباء على أنه ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب . متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل إلى الدواء ،
قالوا : وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية ، لم يحاول دفعه بالأدوية .
قالوا : فزادت كميته عليه ، أو كيفيته ، تشبث بالصحة ، وعبث بها ، وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالبا ، وهم أحد فرق الطب الثلاث ، والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية ، فالقوم الذين غالب أغذيتهم المفردات ، أمراضهم قليلة جدا ، وطبهم بالمفردات ، وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية المركبة ، وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة ، فالأدوية المركبة أنفع لها ، وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة ، فيكفي في مداواتها الأدوية المفردة ، فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية . ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية ، فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء حلله أو وجد داء لا يوافقه أو وجد ما يوافقه ،
ونحن نقول : إن ها هنا أمرا آخر ، نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم ، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم ، فإن ما عندهم من العلم بالطب إما قياس ، وإما تجربة ، وإما إلهامات ومنامات وحدس صائب ، وإما مأخوذ من الحيوانات ، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج فتلغ من الزيت تتداوى به ، وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد غشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج ، فتمر عيونها عليها ، وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره ، فنسبة ما عند الأطباء من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم . [ ص: 102 ]
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تلخيص المستدرك : تشريع النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه يدخل فيه كل الأمة إلا أن يخصه دليل ، وتطبيبه لأصحابه وأهل أرضه خاص بأرضهم وطباعهم إلا أن يدل دليل على التعميم .