استدل العلماء- رضي الله تعالى عنهم- على لذلك بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس . مشروعية زيارته وشد الرحل
أما الكتاب فقوله تعالى : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [النساء : 64] وجه الدلالة من هذه الآية مبني على شيئين :
أحدهما :
أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- حي كما يثبت ذلك في بابه .
الثاني :
أن أعمال أمته معروضة عليه كما يثبت ذلك في بابه .
فإذا عرف ذلك ، فوجه الاحتجاج بها حينئذ أن الله تعالى أخبر أن فإنه يجد الله توابا رحيما ، وهذا عام في الأحوال والأزمان للتعليق على الشرط ، وبعد تقرير أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- بعد موته عارف بمن يجيء إليه سامع الصلاة ممن يصلي عليه ، وسلام من يسلم عليه ، ويرد عليه السلام؛ فهذه حالة الحياة ، فإذا سأله العبد استغفر له؛ لأن هذه الحالة ثابتة له في الدنيا والآخرة ، فإنه شفيع المذنبين وموجبها في الدارين الحياة والإدراك مع النبوة ، وهذه الأمور ثابتة له في البرزخ أيضا فتصح الدلالة حينئذ وفاء بمقتضى الشرط . من ظلم نفسه ثم جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستغفر الله تعالى واستغفر له الرسول؛
وقد استدل الإمام على ذلك بهذه الآية كما ذكرته في باب مشروعية مالك التوسل به- صلى الله عليه وسلم- .
وحكى المصنفون في المناسك من أرباب المذاهب عن أبي عبد الرحمن محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب العتبي أحد أصحاب قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابي فزاره ، ثم قال : يا خير الرسل ، إن الله تعالى أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه : سفيان بن عيينة
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [النساء : 64] وإني جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم بكى وأنشد :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
قال العتبي : فرقدت فرأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- في النوم ، وهو : - يقول : الحق الأعرابي وبشره بأن الله غفر له بشفاعتي ، فاستيقظت ، فخرجت أطلبه ، فلم أجده .
ورويت هذه القصة من غير طريق العتبي . رواه في «تاريخه» ابن عساكر في «الوفاء» عن وابن الجوزي محمد بن حرب الهلالي وقد خمس هذه الأبيات جماعة منهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد الأقفسهي .
وروى الحافظ ابن النعمان في «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» من طريق الحافظ ابن السمعاني بسنده عن - رضي الله تعالى عنه- قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أيام ، فرمى نفسه على القبر الشريف ، وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله ، قلت : فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله تعالى ، ووعينا عنك ، وكان فيما أنزل عليك : علي
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله ، واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [النساء : 64] وقد ظلمت نفسي ، وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر : إنه قد غفر لك .
والآية دالة على الحث على وهذه رتبة لا تنقطع بموته- صلى الله عليه وسلم- والعلماء- رضي الله تعالى عنهم- فهموا من الآية العموم ، بحالتي الموت والحياة ، واستحبوا لمن أتى القبر الشريف أن يتلوها ويستغفر الله تعالى . المجيء إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- والاستغفار عنده واستغفاره لهم ،
وأما السنة فما ذكر في الكتب وما ثبت من خروج النبي- صلى الله عليه وسلم- من المدينة لزيارة قبر الشهداء ، وإذا ثبت أن الزيارة قربة؛ فالسفر كذلك ، وإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد ، وحينئذ فقبره- صلى الله عليه وسلم- أولى ، وقد وقع الإجماع على ذلك لإطباق السلف والخلف .
قال - رحمه الله تعالى- : القاضي عياض - سنة بين المسلمين ومجمع عليها وفضيلة مرغب فيها ، وأجمع العلماء على زيارة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم كما حكاه زيارة القبور للرجال والنساء النووي - رحمه الله تعالى- بل قال بعض الظاهرية بوجوبه ، واختلفوا في النساء ، وقد امتاز القبر الشريف بالأدلة الخاصة به كما سبق .
قال السبكي : ولهذا أقول : لا فرق بين الرجال والنساء .
وأما القياس ، فعلى ما ثبت من زيارته- صلى الله عليه وسلم- لأهل البقيع وشهداء أحد ، وإذا استحب زيارة قبر غيره فقبره أولى ، لما له من الحق ووجوب التعظيم ، وليست زيارته إلا لتعظيمه والتبرك [ ص: 382 ] به ، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه عند قبره بحضرة الملائكة الحافين به ، وذلك من الدعاء المشروع له ، والزيارة قد تكون لمجرد تذكر الآخرة ، وهو مستحب لحديث « » وقد تكون للدعاء لأهل القبور كما ثبت في زيارة أهل البقيع ، وقد تكون للتبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الصلاح . زوروا القبور ، فإنها تذكركم الآخرة
وقال أبو محمد الشامساحي المالكي : إن قصد الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وقبور الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- .
قال السبكي : وهذا الاستثناء صحيح وحكمه في غيرهم بالبدعة فيه نظر ، وقد تكون الزيارة لأداء حق أهل القبور ،
وقد روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال : « آنس ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبه في دار الدنيا » .
قال السبكي : وزيارة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذه المباني الأربعة فلا يقوم غيرها مقامها .