الباب الحادي والثلاثون في الطائف سفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى
قال موسى بن عقبة وغيرهما : ولما هلك وابن إسحاق أبو طالب ونالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنال منه في حياته خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحده ماشيا .
وفي حديث عند جبير بن مطعم ابن سعد : إن كان معه ، في ليال من شوال سنة عشر يلتمس النصر من زيد بن حارثة ثقيف والمنعة بهم من قومه ، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى .
فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، وهي صفية بنت معمر بن حبيب بن قدامة بن جمح ، وهي أم صفوان بن أمية .
فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمهم بما جاء به من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه .
فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك!
وقال الآخر : أما وجد الله أحدا يرسله غيرك .
وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا ، لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك .
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف .
وقد قال لهم : إذ فعلتم فاكتموا علي . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه .
فأقام بالطائف عشرة أيام وقيل شهرا لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاء إليه وكلمه ، فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم منه فقالوا : يا محمد اخرج من بلدنا . وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس .
قال ابن عقبة : وقفوا له صفين على طريقه ، . فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه
زاد سليمان التيمي : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أذلقته الحجارة يقعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه ويقيمونه فإذا مشى رجموه بالحجارة وهم يضحكون .
قال ابن سعد : يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه شجاجا . وزيد بن حارثة
قال ابن عقبة : فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم فاستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع وإذا في الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة فلما رآهما كره [ ص: 439 ] مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فلما اطمأن في ظل الحبلة قال ما سيأتي .
وروى برجال ثقات عن الطبراني عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم أتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال : «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك» .
فلما رآه ابنا ربيعة وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما يقال له عداس فقالا له : خذ له هذا القطف من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه . ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له : كل . فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال بسم الله . ثم أكل فنظر عداس في وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومن أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ قال : نصراني وأنا من أهل نينوى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرية الرجل الصالح يونس بن متى . قال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ والله لقد خرجت منها- يعني من أهل نينوى - وما فيها عشرة يعرفون ما يونس بن متى فمن أين عرفت أنت يونس بن متى وأنت أمي وفي أمة أمية . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي . فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك . فلما جاءهما عداس قالا له : ويلك! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟
قال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل ، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي . قال : ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه .
وقال عداس لسيديه لما أرادا الخروج إلى بدر وأمراه بالخروج معهما فقال لهما : قتال ذلك الرجل الذي رأيت في حائطكما تريدان؟ فوالله ما تقوم له الجبال . فقالا : ويحك يا عداس قد سحرك بلسانه .
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وهو محزون لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة .
خالد العدواني : إنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول : والسماء والطارق حتى ختمها قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام .
قال فدعتني ثقيف فقالوا ماذا سمعت من هذا الرجل فقرأتها عليهم . فقال من معهم من [ ص: 440 ] قريش : نحن أعلم بصاحبنا ولو كنا نعلم ما يقوله حقا لاتبعناه . وقال
رواه الإمام أحمد في تاريخه . والبخاري
رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم عائشة أحد ؟ فقال : لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال لم يجبني إلى ما أردت أحد ، فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني وقال : إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال قد بعثني الله عز وجل لتأمرني بما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئا . وقالت
رواه والشيخان . الإمام أحمد
وقال عكرمة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «جاءني جبريل فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام وهذا ملك الجبال قد أرسله وأمره ألا يفعل شيئا إلا بأمرك . فقال له ملك الجبال : إن شئت رمهت عليهم الجبال ، وإن شئت خسفت بهم الأرض فقال : يا ملك الجبال : فإني آنى بهم لعلهم أن يخرج منهم ذرية يقولون لا إله إلا الله . فقال ملك الجبال : أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم» .
رواه مرسلا . ابن أبي حاتم
وذكر الأموي وابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته أقام بنخلة أياما وأراد الرجوع إلى مكة فقال له كيف تدخل عليهم وهم قد أخرجوك؟ فقال : يا زيد بن حارثة : زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله مظهر دينه وناصر نبيه . ثم انتهى إلى حراء وبعث عبد الله بن أريقط إلى الأخنس بن شريق - وأسلم بعد ذلك فيما يقال- ليجيره فقال : أنا حليف والحليف لا يجير على الصريح .
فبعث إلى - وأسلم بعد ذلك- فقال : إن سهيل بن عمرو بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب . فبعث إلى المطعم بن عدي - ومات كافرا- فأجابه إلى ذلك وقال : نعم قل له فليأت . فرجع إليه فأخبره فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة ، فلما أصبح [ ص: 441 ] خرج المطعم بن عدي وقد لبس سلاحه هو وبنوه ستة أو سبعة . فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : طف .
واحتبوا بحمائل سيوفهم بالمطاف فأقبل أبو سفيان إلى المطعم بن عدي فقال : أمجير أم تابع؟
قال : بل مجير . قال : إذن لا تخفر قد أجرنا من أجرت . فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه ، فلما انصرف إلى بيته وانصرفوا معه ، فذهب أبو سفيان مجلسه .
فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما ثم أذن له الله عز وجل في الهجرة ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي المطعم بن عدي بعده ، ولأجل هذه السابقة التي سبقت للمطعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى- يعني أسارى بدر لأطلقتهم له» . «لو كان