التبيان : «أخبر تعالى عن وصف من علمه بالوحي أنه مضاد لأوصاف الشيطان معلم الضلالة والغواية ، وهذا نظير قوله تعالى : ذي قوة عند ذي العرش مكين [التكوير : 20] [ ص: 37 ] وفي وصفه بذلك تنبيه على أمور :
الأول : أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو منه وأن ينالوا منه شيئا أو يزيدوا فيه أو ينقصوا منه ، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقربه .
الثاني : أنه موال لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له ومواد له وناصر ، كما قال تعالى : فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين [التحريم : 4] الآية . ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه . فهو المهدي المنصور . والله هاديه وناصره .
الثالث : أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل ، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك .
الرابع : أنه قادر على تنفيذ ما أمر به بقوته فلا يعجز عن ذلك مواد له كما أمر» .
السمين : «فاعل علمه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر . قال الماوردي إنه قول الجميع إلا الحسن ، فإنه قال هو الباري تعالى لقوله عز وجل : والقرطبي الرحمن علم القرآن [الرحمن : 1 ، 2] ويكون «ذو مرة» تمام الكلام» .
اللباب : «يجوز أن تكون هذه الهاء للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الظاهر ، فيكون المفعول الثاني محذوفا أي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي أي الموحى ، ويجوز أن يكون للقرآن والوحي ، فيكون المفعول الأول محذوفا أي علمه النبي .
الإمام الرازي : «الأولى أن يقال الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم ، تقديره علم محمدا شديد القوى جبريل ، ويكون عائدا إلى صاحبكم ، تقديره : ما ضل صاحبكم ، وشديد القوى هو جبريل ، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة ، ثم في قوله : شديد القوى فوائد :
الأولى : أن مدح المعلم مدح للمتعلم ، فلو قال : علمه جبريل ولم يصفه ما كان يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة ظاهرة .
الثانية : أن فيه ردا عليهم بحيث قالوا : أساطير الأولين ، فقال : لم يعلمه أحد من الناس علمه شديد القوى .
الثالثة : فيه الوثوق بقول جبريل صلى الله عليه وسلم ، ففي قوله تعالى : شديد القوى جميع ما يوجب الوثوق لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل على ما عرف ، وكذلك قوة الحفظ ، فقال : (شديد القوى) ليجمع هذه الشرائط ، فيصير كقوله تعالى : ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [التكوير : 20 ، 21] .
اللباب : «شديد القوى من كافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية ، هذا ما جزم [ ص: 38 ]
به وتابعوه» . وقال صاحب الكفيل : «بل هي مضافة إلى مفعولها ، وبسط الكلام على ذلك ، والشديد البين القوة» . الزمخشري
روى عن ابن عساكر - بضم القاف وتشديد الراء - رضي الله تعالى عنه ، قال : معاوية بن قرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : «ما أحسن ما أثنى عليك ربك : ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين » ما كانت قوتك وما كانت أمانتك؟ قال : أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن ، وفي كل مدينة أربع مائة ألف مقاتل سوى الذراري ، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ، ثم هويت بهن فقلبتهن . وأما أمانتي فلم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره» .
وقال «من محمد بن السائب : جبريل أنه اقتلع مدائن قوم قوة لوط من الماء الأسود فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء حتى أسمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح ديكتهم ، ثم قلبها ، ومن قوته أيضا أنه أبصر إبليس يكلم عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند . ومن قوته هبوطه من السماء على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ، وصعوده إليها في أسرع من طرفة عين» .
العاشر : في ذو مرة » [النجم : 6] . الكلام على قوله تعالى :
: قال القرطبي قطرب : تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل ذو مرة ، قال الشاعر :
قد كنت قبل لقاكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله .الجوهري : «والمرة القوة وشدة العقل ، ورجل مرير أي قوي ذو مرة . قال :
ترى الرجل النحيف فتزدريه وحشو ثيابه أسد مرير
الإمام : «في قوله : ذو مرة » وجوه : الأول : ذو قوة ، قلت ورواه عن مجاهد [ ص: 39 ] ويدل على هذا الفريابي
قوله صلى الله عليه وسلم : . رواه «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» . الإمام أحمد
الثاني : ذو كمال في العقل وفي الدين جميعا . الثالث : ذو منظر وهيبة عظيمة . الرابع : ذو خلق حسن» . قلت زاد خامسا : ذو غناء . الماوردي
قلت : ولا تنافي بين هذه الأقوال ، فإنه صلى الله عليه وسلم متصف بها . فإن قيل : على قولنا ذو مرة ، قد تقدم بيان كونه شديد القوى ، فكيف تقول قواه شديدة وله قوة؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن ذلك لا يحسن إذا كان وصفا بعد وصف ، وأما إذا جاء بدلا فيجوز ، كأنه قال :
علمه ذو قوة ، ونزل شديد القوى فليس وصفا له وتقديره ذو قوة عظيمة أو كاملة . الثاني : أن إفراد «مرة» بالذكر ربما تكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خصه الله تعالى بها .
على أنا نقول المراد ذو شدة وهي غير القوة ، وتقديره علمه من قواه الشديدة ، وفي ذاته أيضا شدة ، فإن الإنسان ربما يكون كثير القوة صغير الجثة . وفيه لطيفة وهي أنه تعالى أراد بقوله : شديد القوى ، أي قوة العلم ، وبقوله : ذو مرة ، أي شدة في الجسم ، قدم العلمية على الجسمية ، كما قال تعالى : وزاده بسطة في العلم والجسم [البقرة : 247] ، وتقدم الكلام على «ذو» في اسمه صلى الله عليه وسلم : ذو الوسيلة فراجعه .