تنبيهات 
الأول : دل حديث  ابن مسعود  على أن نزول هذه الآية كان بالمدينة ،   وروى الإمام  أحمد   والترمذي  وصححه ،  والنسائي   وابن حبان  عن  ابن عباس  قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل . فقالوا : سلوه عن الروح . فنزلت : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .  قالوا : "أوتينا علما كثيرا . أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا" . فأنزل الله عز وجل : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا   [الكهف 109] سند رجاله رجال صحيح  مسلم ،  ورواه  ابن إسحاق  من وجه آخر نحوه ، وسبق في باب امتحان المشركين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأشياء لا يعرفها إلا نبي . 
وروى  ابن إسحاق   وابن جرير  عن  عطاء بن يسار  قال : نزلت بمكة :  وما أوتيتم من العلم إلا قليلا  
فلما هاجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة  أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ،  بلغنا أنك تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا  أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ قال : "لا بل  [ ص: 386 ] عنيتكم" . فقالوا : "إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء" . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : 
"هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم" ، 
وأنزل الله عز وجل : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ،  ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير .   [لقمان 27 ، 28] ودل حديث  ابن مسعود ،  وأثر  عطاء  أن الآية نزلت بمكة ،  وجمع بينهما وبين حديث  ابن مسعود  رضي الله عنه بتعدد النزول ، ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك إن ساغ ذلك ، وإلا فما في الصحيح أصح . وقال الشيخ رحمه الله تعالى في "الإتقان" : "إذا استوى الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات" ، ثم ذكر [مثالا له] حديث  ابن مسعود  وحديث  ابن عباس  المذكورين . ثم قال : 
"فهذا- أي حديث  ابن عباس-  يقتضي أن الآية نزلت بمكة ،  والحديث الأول خلافه" . وقد رجح أن ما رواه  البخاري  أصح من غيره ، وبأن  ابن مسعود  كان حاضر القصة . 
الثاني : قال  أبو نعيم :   "قيل : من علامات نبوة سيدنا محمد-  صلى الله عليه وسلم- في الكتب المنزلة أنه إذا سئل عن الروح فوض العلم بحقيقتها إلى منشئها وبارئها ، وأمسك عما خاضت فيه الفلاسفة وأهل المنطق القائلون بالحدس والتخمين ، فامتحنه اليهود بالسؤال عنها ليقفوا منه على نعته المثبت عندهم في كتابهم ، فوافق كتابه ما ثبت في كتبهم" . 
الثالث : قال ابن التين :   "اختلف في الروح المسؤول عنها  في هذا الخبر على أقوال : 
الأول : روح الإنسان ، الثاني : روح الحيوان . الثالث : جبريل .  الرابع : عيسى .  الخامس : القرآن . 
السادس : الوحي . السابع : ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة . الثامن : ملك له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى [بتلك اللغات كلها] ويخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة ، وقيل : ملك رجلاه في الأرض السفلى ورأسه عند قائمة العرش . التاسع : خلق كخلق بني آدم يأكلون ويشربون ، لا ينزل ملك من السماء إلا نزل معه ملك منهم . وقيل : هو صنف من الملائكة يأكلون ويشربون" . قال الحافظ : "وهذا إنما يجمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ "الروح" الوارد في القرآن لا خصوص هذه الآية ، فمن الذي في القرآن : 1 نزل به الروح الأمين   [الشعراء 193] ، 2 وكذلك أوحينا- إليك روحا من أمرنا   [الشورى 52] ، 3 يلقي الروح من أمره   [غافر : 15] ، 4 وأيدهم بروح منه   [المجادلة 22] ، 5 يوم يقوم الروح والملائكة صفا   [النبأ 38] ، 6 ينزل الملائكة بالروح من أمره   [النحل 2] ؟ فالأول : جبريل ، والثاني : القرآن ، والثالث : الوحي ، والرابع : القوة ، والخامس والسادس : محتمل لجبريل  أو غيره ، ووقع إطلاق الروح على عيسى .   [ ص: 387 ] 
وروى  إسحاق بن راهويه  بسند صحيح عن  ابن عباس  قال :  "الروح من الله ، وخلق من خلق الله ، وصور كبني آدم ، لا ينزل ملك إلا ومعه أحد من الروح"  . وقال  الخطابي :   "حكوا في المراد بالروح في الآية أقوالا ، وقال الأكثرون : سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد . وقال أهل النظر : "سألوه عن مسلك الروح وامتزاجها بالجسد ، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه . وقال  القرطبي :   "الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان : لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى  روح الله ، ولا نجهل أن جبريل  ملك ، وأن الملائكة أرواح" . وقال الإمام فخر الدين :  
"المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة ، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه ، وبيانه : أن السؤال عن الروح يحتمل أن يكون عن ماهيتها ، وهل هي متحيزة أم لا ، وهل هي حالة في متحيز أم لا ، وهل هي قديمة أو حادثة ، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى ، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من تعلقاتها" ؟ قال : "وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني ، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية ، وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها ، فهي جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث ، وهو قوله تعالى : "كن فكان" . قال : هي موجودة محدثة بأمر الله عز وجل وتكوينه ، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد ، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيها . 
الرابع : تنطع قوم "فتباينت أقوالهم في الروح ، فقيل : هي النفس الداخل الخارج ، وقيل الحياة ، وقيل : جسم لطيف يحل في جميع البدن ، وقيل : هي الدم ، وقيل : هي عرض ، حتى قيل : إن الأقوال بلغت المائة ، ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين إن لكل نبي خمس أرواح ، وأن لكل مؤمن ثلاثا ، ولكل حي واحدة . 
الخامس : قال القاضي  أبو بكر بن العربي :   "اختلفوا في الروح والنفس ، فقيل متغايران وهو الحق ، وقيل : هما شيء واحد ، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس ، كما يعبر عن الروح وعن النفس بالقلب وبالعكس ، وقد يعبر عن الروح بالحياة حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء ، بل إلى الجهال مجازا . 
قال تلميذه السهيلي :  يعني على مغايرة الروح والنفس قوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي   [الحجر : 29] ، وقوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك   [المائدة 116] فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر ، ولولا التغاير لساغ ذلك . 
				
						
						
