الباب الثاني عشر في بني قينقاع غزوة
[وهم قوم ، وكانت يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجره صلى الله عليه وسلم ، وكانوا حلفاء عبد الله بن سلام عبد الله بن أبي ابن سلول وغيرهما من قومهما ، وكانوا أشجع يهود ، وهم صاغة ، وكانت الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام : قسم وادعهم على ألا يحاربوه ولا يوالوا عليه عدوه ، وهم طوائف اليهود الثلاثة : [ وعبادة بن الصامت ، قريظة والنضير وبني قينقاع ] وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة ، وهم قريش ، وقسم تاركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره كطوائف من العرب ، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة ، وبالعكس كبني بكر ، ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه وهم المنافقون .
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا وادعته يهود كلها ، وكتب بينه وبينهم كتابا ، وألحق كل قوم بحلفائهم وجعل بينه وبينهم أمانا ، وشرط عليهم شروطا : منها : ألا يظاهروا عليه عدوا ، فلما كان يوم بدر كان بنو قينقاع أول يهود نقضوا العهد ، وأظهروا البغي والحسد ، وقطعوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد ، فجمعهم بسوق بني قينقاع وقال : «يا معشر يهود أسلموا ، فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة فأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم »
قالوا : يا محمد إنك ترى أنا مثل قومك ، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة ، إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس .
قال فيما رواه ابن عباس : ما أنزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم : ابن إسحاق قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله [آل عمران 12 ، 13 ] أي أصحاب بدر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار فبينما هم على ما هم عليه من إظهار العداوة ونبذ العهد قدمت امرأة من العرب بجلب لها فباعت بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها لحلي ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فلم تفعل ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها من ورائها فحله بشوكة وهي لا تشعر ، فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها ، فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا .
وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، ونبذوا العهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، وغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع .
وأنزل الله سبحانه وتعالى : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين [الأنفال 58 ]
فقال صلى الله عليه وسلم : «إنما أخاف من بني قينقاع » ، فسار إليهم [ ص: 180 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الآية ، وحمل لواءه ، وكان يومئذ أبيض . حمزة بن عبد المطلب
قال ابن سعد : ولم تكن الرايات يومئذ . واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ، فتحصنوا في حصنهم فحاصرهم أشد الحصار ، فأقاموا على ذلك خمس عشرة ليلة ، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب ، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم ، وأن لهم النساء والذرية ، فأمر بهم فكتفوا ، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي ، بفتح السين المهملة واللام .
ومشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبادة بن الصامت عبد الله بن أبي ابن سلول ، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ إلى الله تعالى ورسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله : أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الرجال ، فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد أحسن في موالي ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه ، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه ، وكان يقال لها : ذات الفضول ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ويحك أرسلني » ، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ، ثم قال : ويحك أرسلني ، قال : والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي : أربعمائة حاسر ، وثلاثمائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة ، إنى والله امرؤ أخشى الدوائر ، فقال صلى الله عليه وسلم : «خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم » .
وتركهم من القتل ، وأمر بهم أن يجلوا من المدينة ، فخرجوا بعد ثلاث ، وولي إخراجهم منها ، وقيل : عبادة بن الصامت محمد بن مسلمة ، فلحقوا بأذرعات ، فما كان أقل بقاءهم بها ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاث قسي : كسرت قوسا يدعى الكتوم بأحد ، وقوسا يدعى الروحاء ، وقوسا يدعى البيضاء ، وأخذ درعين : ، وثلاثة أرماح ، وثلاثة أسياف ، سيف قلعي ، وسيف يقال له : بتار ، وآخر لم يسم . ووجد في منازلهم سلاحا كثيرا وآلة للصياغة ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صفيه والخمس ، وفض أربعة أخماسه على أصحابه فكان أول خمس بعد بدر ، وكان الذي قبض أموالهم درعا يقال له : الصغدية وأخرى فضة محمد بن مسلمة ، فأنزل الله تعالى في شأن عبد الله بن أبي وفي شأن عبادة بن الصامت : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض [المائدة 51 ، 52 ] أي عبد الله بن أبي وقوله : إني أخشى الدوائر يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين إلى قوله تعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون [المائدة 55 ] وذلك لتولي [ ص: 181 ] من الله تعالى ورسوله والذين آمنوا ، وتبرئه من عبادة بن الصامت بني قينقاع وحلفهم وولايتهم ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون [المائدة 56 ] .