بابك ذكر خبر
روى عن رجل من الصعاليك يقال له مطران ، قال: بابك ابني ، فقيل له: كيف؟ قال: كانت أمه تخدمني وتغسل ثيابي ، فوقعت يوما عليها ، ثم غبنا عنها ، ثم قدمنا ، فإذا هي تطلبني ، فقالت: حين ملأت بطني تركتني فقلت لها: والله لئن ذكرتيني لأقتلنك . فسكتت ، فهو والله ابني .
وذكر بعض المؤرخين أن أم بابك كانت عجوزا فقيرة [في قرية] من قرى الأدعان فشغف بها رجل من النبط في السواد يقال له عبد الله [بن محمد بن منبه] فحملت منه ، وقتل الرجل ، وبابك حمل ، فوضعته وجعلت تكتسب له ، إلى [ ص: 52 ] أن بلغ ، وصار أجيرا لأهل قريته على سرحهم بطعامه وكسوته ، وكان في تلك الجبال من الخرمية قوم وعليهم رئيسان يتكافحان ، يقال لأحدهما جاوندان والآخر عمران ، فمر جاوندان بقرية بابك ، فتفرس فيه الجلادة ، فاستأجره من أمه ، وحمله إلى ناحيته فمالت إليه امرأته وعشقته ، فأفشت إليه أسرار زوجها ، وأطلعته على دفائنه ، فلم يلبث إلا قليلا حتى وقعت بين جاوندان وعمران حرب ، فأصابت جاوندان جراحة فمات منها ، فزعمت امرأة جاوندان أنه قد استخلف بابك على أمره ، فصدقوها ، فجمع بابك أصحابه وأمرهم أن يقوموا بالليل ، وأن يقتلوا من لقوا من رجل أو صبي ، فأصبح الناس قتلى ، لا يدرون من قتلهم ، ثم انضوى إليه الذعار وقطاع الطريق وأرباب الزيغ ، حتى اجتمع إليه جمع كثير ، واحتوى على مدن وقرى ، وقتل ، ومثل ، وحرق ، وانهمك في الفساد ، وكان يستبيح المحظورات ، وكان من رؤساء الباطنية .
(وكان بابك في سنة إحدى ومائتين ، بناحية ظهور أذربيجان ، وهزم من جيوش السلطان وقواده خلقا كثيرا ، وبقي عشرين سنة على ذلك ، فقتل مائتي ألف وخمسة وخمسين ألف وخمسمائة إنسان . وكان إذا علم عند أحد بنتا جميلة ، أو أختا طلبها منه ، فإن بعثها إليه وإلا بيته وأخذها ، فاستنقذ من يده لما أخذه المسلمون سبعة آلاف وستمائة إنسان [ ص: 53 ] ولما ولي بعث إليه المعتصم ، أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل ، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيها بين زنجان وأردبيل ، ويجعل فيها الرجال مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل ، فتوجه أبو سعيد لذلك ، وبنى الحصون ، فوجه بابك سرية له في بعض غاراته ، وجعل أميرهم رجلا يقال له: معاوية ، فخرج فأغار على بعض النواحي ورجع منصرفا ، فبلغ ذلك أبا سعيد محمد بن يوسف ، فجمع الناس ، وخرج إليه ، فعرض له في بعض الطريق ، فواقعه ، فقتل من أصحابه جماعة ، وأسر منهم جماعة ، واستنقذ ما كان حواه ، فهذه أول هزيمة كانت على أصحاب بابك ، وبعث أبو سعيد الأسرى والرءوس إلى المعتصم .
ثم كانت أخرى لمحمد بن البعيث ، وكان في قلعة حصينة ، وكان مصالحا لبابك إذا توجهت سراياه نزلت به ، فأضافهم ، فوجه بابك رجلا يقال له: عصمة في سرية ، فنزل بابن البعيث ، فأقام له الضيافة على العادة ، وبعث إلى عصمة أن يصعد إليه في خاصته ووجوه أصحابه ، فصعد فغداهم وسقاهم حتى أسكرهم ، ثم وثب على عصمة فاستوثق منه ، وقتل من كان معه من أصحابه ، وأمره أن يسمي رجلا رجلا من أصحابه باسمه ، فكان يدعى الرجل باسمه فيصعد ، فيضرب عنقه ، حتى علم الباقون فهربوا ، ووجه بعصمة إلى فلم يزل محبوسا إلى أيام المعتصم ، الواثق .
فندب المعتصم الأفشين للقاء بابك ، وعقد له على الجبال كلها ، ووصف له كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم صلة ، ويوما لا يركب خمسة آلاف درهم ، سوى الأرزاق والأنزال والمعاون وما يتصل إليه من أعمال الجبال ، وأجازه عند خروجه بألف ألف درهم فقاومه الأفشين سنة ، وانهزم من بين يديه غير مرة ، ولما وصل الأفشين إلى برزند عسكر بها ، ورم الحصون ما بين برزند ، وأردبيل ، وأنزل محمد بن يوسف بموضع [ ص: 54 ] يقال له خش ، واحتفر حوله خندقا ، وكان إذا وقع بجاسوس لبابك أضعف له ما يعطيه بابك ، ويقول له: كن جاسوسا لنا .
فوجه مع المعتصم بغا الكبير بمال إلى الأفشين لجنده وللنفقات ، فبلغ الخبر إلى بابك ، فتهيأ ليقطع الطريق عليه ويأخذ المال ، فعرف الأفشين ، فكتب إلى بغا بأن يقيم بأردبيل حتى يأتيه رأيه ، وركب الأفشين في سر ، فجاء وبابك قاعد على غفلة ، وأصحابه قد تفرقوا ، فاشتبكت الحرب ، فلم يفلت من رجال بابك أحد ، وأفلت هو في نفر يسير إلى موقان ، ورجع الأفشين إلى معسكره ببرزند ، ثم بعث إلى البذ فجاءه في الليل عسكر فيه رجالة ، فرحل بهم من موقان حتى دخل البذ ، وهي مدينة بابك .