[ ص: 225 ] باب ذكر الطائع لله عز وجل خلافة
اسمه عبد الكريم بن المطيع لله ، ويكنى: أبا بكر ، وأمه أم ولد ، اسمها: عتب ، أدركت خلافته ، وقد ذكرنا أن خلع نفسه غير مستكره ، وولي المطيع الطائع في اليوم الذي خلع فيه نفسه ، وكان سنه يوم ولي ثمان وأربعين سنة ، وقيل: خمسين ، ولم يل الأمر أكبر سنا منه ، ولا من له أب حي سوى المطيع أبي بكر الصديق ، والطائع ، وكلاهما يكنى: أبا بكر ،
وكان أبو بكر الطائع أبيض ، أشقر ، حسن الجسم ، شديد القوة ، وفي رواية: أنه كان في دار الخلافة أيل عظيم ، فكان يقتل بقرنه الدواب والبغال ، ولا يتمكن أحد من مقاومته ، فاجتاز فرآه وقد شق راويه ، فقال للخدم: امسكوه ، فسعوا خلفه حتى ألجئوه إلى مضيق ، وبادر الطائع لله الطائع فأمسك قرنيه بيديه ، فلم يقدر أن يخلصهما وهرب .
واستدعى بنجار ، فقال: ركب المنشار عليهما ، ففعل ، فلما بقيا على يسير قطعهما بيده وهرب الإيل على وجهه ، وسقطت فرجية الطائع عن كتفيه ، فتطأطأ بعض الخدم ليرفع الفرجية ، فنظر إليه بمؤخر عينه منكرا لفعله ، فتركها ومضى الطائع ، وبقيت الفرجية إلى آخر النهار لا يجسر أحد على تحريكها من موضعها ، فلما أراد النجار الانصراف حضر خادم وقال: خذ هذه الفرجية ، فأخذها وكانت من الوشي القديم ، فباعها بمائة وسبعين دينارا .
ولما ولي الطائع وعليه البردة ، ومعه الجيش ، وبين يديه سبكتكين في يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي القعدة ، ومن غد هذا اليوم خلع على سبكتكين الخلع السلطانية ، وعقد له لواء الإمارة ، ولقبه نصر الدولة ، وحضر عيد الأضحى فركب الطائع [ ص: 226 ] إلى المصلى بالجانب الشرقي ، وعليه السواد قباء ، وعمامة ، وخطب خطبة بليغة بعد أن صلى بالناس كانت:
"الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، متقربا إليه ، ومعتمدا عليه ، ومتوسلا بأكرم الخلائق لديه ، الذي صيرني إماما منصوصا عليه ، ووهب لي أحسن الطاعة في ما فوضه إلي من الخلافة على الأمة ، الله أكبر ، الله أكبر ، مقرا بجميل آلائه فيما أسنده إلي من حفظ الأمم وأموالها ، وذراريها ، وقمع بي الأعداء في حضرها وبواديها ، وجعلني خير مستخلف على الأرض ومن فيها .
الله أكبر ، الله أكبر ، تقربا بنحر البدن التي جعلها من شعائره ، وذكرها في محكم كتابه ، واتباعا لسنة نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم في فدية أبينا إسماعيل ؛ إذ قد أمره بذبحه ، فاستسلم هراق دمه وسفحه غير جزع فيما نابه ، ولا نكل عن ما أمر به ، فتقربوا إلى الله في هذا اليوم العظيم بالذبائح ، فإنها من تقوى القلوب .
الله أكبر ، الله أكبر ، وصلى الله على محمد خيرته من خليقته ، وعلى أهل بيته وعترته ، وعلى آبائي الخلفاء النجباء ، وأيدني بالتوفيق فيما أتولى ، وسددني من الخلافة فيما أعطى ، وأنا أخوفكم معشر المسلمين غرور الدنيا؛ فلا تركنوا إلى ما يبيد ويفنى ، ويزول ويبلى ، وإني أخاف عليكم يوم الوقوف بين يدي الله تعالى غدا ، وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن أوتي كتابه بيمينه فلا يخاف ظلما ولا هضما ، أعاذنا الله وإياكم من الردى ، واستعملنا وإياكم بأعمال أهل التقوى ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين" .
ثم إن عز الدولة أدخل يده في إقطاع سبكتكين ، سبكتكين الأتراك الذين ببغداد ، ودعاهم إلى طاعته فأجابوه ، وراسل فجمع أبا إسحاق بن معز الدولة يعلمه بالحال ، ويطمعه أن يعقد له الأمر ، فاستشار والدته ، فمنعته من ذلك ، فصار إليها من ببغداد من الديلم ، وصوبوا لها محاربة سبكتكين ، فحاربوه ، فقهرهم واستولى على ما كان ببغداد لعز الدولة ،
وثارت العامة؛ تنصر سبكتكين ، وبعث سبكتكين إلى عز الدولة [ ص: 227 ] يقول له: إن الأمر قد خرج عن يدك ، فأخرج لي عن واسط وبغداد ليكونا لي وتكون البصرة والأهواز لك ، ولا تفتح بيننا باب حرب ، وكتب عز الدولة إلى عضد الدولة يساعده ويستنجده ، فماطله بذلك ، ثم إن الناس صاروا حزبين ، فأهل التشيع ينادون بشعار عز الدولة والديلم ، وأهل السنة ينادون بشعار سبكتكين والأتراك ، واتصلت الحروب ، وسفكت الدماء ، وكبست المنازل ، وأحرق الكرخ حريقا ثانيا .