ومن : الحوادث في زمانه
أنه رفع إليه صاحب الخبر بنياسبور أنه [ قد ] ظهر رجل لا يغادر صورته شيء من صورة الملك ، وأن اسمه أنوشروان ، وأنه حائك ، وأنه ولد في ساعة كذا وكذا من يوم كذا وكذا من سنة كذا وكذا ، فنظر أنوشروان فوجد مولده لا يغادر شيئا من مولده ، فوجه رجلين من أهل الدين والأمانة إلى نيسابور ليكتبا إليه بخبر الرجل ، فلم يلبث أن جاءه كتاب الأمينين بصدق ما كتب صاحب الخبر ، وزادا: أنا سألنا عن مذهب هذا الإنسان ، فأخبرونا ثقات جيرانه ومعامليه أنه من الصحة في المعاملة وصدق اللهجة [ والستر ] والسداد بحيث لا يعرفون من يقاربه في أهل صناعته .
فتعجب أنوشروان فكتب إلى العامل أن يدفع إلى هذا الرجل عشرة آلاف درهم ، وأن يجري له [ ذلك ] في كل سنة ، وأن يخير إن أحب أن لا يحوك ، ويجري عليه زيادة من المال ما يكون وراء كفايته . فأحضره عامل نيسابور وأقبضه المال ، ورفع [ ص: 116 ] مجلسه وقال: إن الملك أنوشروان يخيرك أن تدع هذه الصناعة ويزيدك ما يرضيك ، فما الذي تراه ، فجرى الملك خيرا ، فقال: ما أحب أن يكون مكافأتي للملك على إغنائه إياي نقض شيء من سنته ، متكلا على مال الملك ، ولولا أن برك اسمي في مضاهاة اسم الملك قد ظهر علي لاستبدلت به ، تنزيها لجلالة اسم الملك أن يكون مثلي سميه . فكتب بخبره إلى أنوشروان ، فأمر الملك أن يجعل أنوشروان الحائك عريف الحاكة ورئيسهم ، فأفاد مالا جليلا ، ولم يدع صناعته . ومات في السنة التي مات فيها أنوشروان الملك .
ومن الحوادث: أن كسرى [ أنوشروان ] خرج يتصيد .
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن الحسين الخالدي قال: حدثنا قال: أخبرنا المعافى بن زكريا أحمد بن كامل قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد القيسي قال: أخبرنا محمد بن أبي السري قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبيه قال: خرج كسرى في بعض أيامه للصيد ومعه أصحابه ، فعن له صيد فتبعه حتى انقطع عن أصحابه وأظلته سحابة فأمطرت مطرا [ شديدا ] حال بينه وبين أصحابه ، فمضى لا يدري أين يقصد ، فرفع له كوخ فقصده .
فإذا عجوز بباب الكوخ جالسة [ ص: 117 ] فقال لها: أنزل . قالت: انزل . فنزل فدخل الكوخ ، وأدخل فرسه ، فأقبل الليل ، فإذا ابنة العجوز قد جاءت معها بقرة قد رعتها بالنهار ، فأدخلتها الكوخ ، وكسرى ينظر إليها ، فقامت العجوز إلى البقرة [ ومعها ] إناء فاحتلبت [ البقرة لبنا ] صالحا وكسرى ينظر فقال في نفسه: ينبغي أن تجعل على كل بقرة إتاوة - يعني خراجا - فهذا حلاب كبير . وأقام مكانه حتى مضى أكثر الليل .
فقالت العجوز: يا فلانة ، قومي إلى فلانة - تريد البقرة - فاحتلبيها . فقامت إلى البقرة فوجدتها حائل لا لبن فيها ، فنادت: يا أماه ، قد والله أضمر لنا الملك شرا . فقالت: وما ذاك ؟ قالت: هذه فلانة حائل تبيس بقطرة . فقالت لها: امكثي فإن عليك ليلا . فقال كسرى في نفسه: من أين علمت ما أضمرت في نفسي ، أما إني لا أفعل ذلك . قال: فمكثت ، ثم نادتها: يا بنية ، قومي إلى فلانة فاحتلبيها . فقامت إليها فوجدتها حافل . فقالت: يا أماه ، قد والله ذهب ما كان في نفس الملك من الشر ، هذه فلانة حافل . فاحتلبتها .
وأقبل الصبح وتتبع الرجال أثر كسرى حتى أتوه بركب ، فأمر بحمل العجوز وابنتها إليه ، فأحسن إليهما ، وقال: كيف علمت أن الملك قد أضمر شرا ، وأن الشر الذي أضمره قد رجع فيه ؟ قالت [ العجوز ]: إنا بهذا المكان منذ كذا وكذا ، ما عمل فينا بعدل إلا أخصب بلدنا ، واتسع عيشنا ، وما أمر فينا بجور إلا ضاق عيشنا ، وانقطعت موادنا والنفع عنا .
[ ص: 118 ] ومن الحوادث: أن كسرى أمر جنوده أن لا يتعرضوا لزرع أحد ، فمر فارس منهم بمبطخة ، فأخذ بطيخة ، فتعلق به صاحب البطيخة وقال: بيني وبينك الملك . فبذل له ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له إلى عشرة آلاف درهم فلم يقبل . فحمله إلى الملك فقص عليه القصة ، فقال للفارس: ما حملك على ما فعلت . قال: دنو الأجل . قال: فكم بذلت فيها ؟ قال: عشرة آلاف درهم وما أملك غيرها . فقال كسرى للأكار: ويحك ، ما الذي زهدك في عشرة آلاف درهم ، ورغبك في دم هذا البائس ؟ قال: ما رغبت في دمه ، ولكني كنت فقيرا ولم أر إلا الخير في أيام الملك ، فأردت أن أزيد في شرف أفعاله حتى يقال إن في أيامه بلغت بطيخة عشرة آلاف درهم . فاستحسن ذلك منه ، وقال للفارس: أعطه ما بذلت . وأعطاه مثل ذلك .