ومن الحوادث التي كانت في سنة ثلاث عشرة من مولده صلى الله عليه وآله وسلم أبو طالب أن يسافر برسول الله صلى الله عليه وسلم معه إلى بصرى وتهيأ لذلك] [عزم
قال مؤلف الكتاب : لما أتت له اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام ارتحل به أبو طالب إلى الشام .
فروى عن ابن إسحاق ، عبد الله بن أبي بكر قال:
لما تهيأ أبو طالب للخروج إلى الشام أصب به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له أبو طالب ، وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا ، فخرج به معه ، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرا وهو في صومعة [له] ، وكان ذا علم في النصرانية ، ولم يزل في تلك الصومعة راهبا ، إليه يصير علمهم عن كتاب - فيما يزعمون - [أنهم] يتوارثونه كابرا عن كابر . [ ص: 293 ]
أخبرنا محمد بن عبد الباقي [البزاز] قال: أخبرنا الحسين بن علي الجوهري قال: أخبرنا قال: أخبرنا ابن حيويه أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا محمد بن صالح ، وعبد الله بن جعفر الزهري .
قال محمد بن عمر: وأخبرنا ابن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين قال: لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، فلما نزل الركب بصرى من الشام وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له ، وكان علماء النصارى يكونون معه في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه قال : فلما نزلوا ببحيرا ، وكان كثيرا ما يمرون به لا يكلمهم ، حتى إذا كان ذلك العام ، ونزلوا منزلا قريبا من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا ، فصنع لهم طعاما ، ثم دعاهم ، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم ، حتى نزلوا تحت الشجرة ، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة ، واحتضنت أغصان الشجرة على النبي صلى الله عليه وسلم حين استظل تحتها ، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته ، وأمر بذلك الطعام ، فأتي به ، فأرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، وأنا أحب أن تحضروه كلكم ولا تخلفوا منكم صغيرا ولا كبيرا ، حرا ولا عبدا فإن هذا شيء تكرمونني به .
فقال رجل: إن لك لشأنا يا بحيرا ، ما كنت تصنع بنا هذا ، فما شأنك اليوم؟! قال: فإني أحببت أن أكرمكم ، ولكم حق . فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم - لحداثة سنه ، لأنه ليس في القوم أصغر سنا منه - [في رحالهم تحت الشجرة] ، فلما نظر بحيرا إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده وجعل [ ص: 294 ] ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ، ويراها متخلفة على رأس [الشجرة على] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بحيرا: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي .
قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم . فقال: ادعوه فليحضر طعامي ، فما أقبح أن تحضروا طعامي ويتخلف رجل واحد ، مع أني أراه من أنفسكم .
فقال القوم: هو أوسطنا نسبا ، وهو ابن أخي هذا الرجل - يعنون أبا طالب - وهو من ولد عبد المطلب .
فقال [ الحارث بن عبد المطلب :] والله إن كان بنا للوم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا ثم قام إليه واحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام ، والغمامة تسير على رأسه ، وجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، فلما تفرقوا عن طعامهم قام إليه الراهب فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألا أخبرتني عما أسألك؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى ، فو الله ما أبغضت شيئا بغضهما" .
قال: فبالله ألا أخبرتني عما أسألك عنه؟ قال: سلني عما بدا لك . فجعل يسأله [عن أشياء] من حاله حتى نومه ، فجعل رسول الله يخبره فيوافق ذلك ما عنده ، ثم [ ص: 295 ] جعل ينظر بين عينيه ، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضع الصفة التي عنده ، فقبل موضع الخاتم .
فقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا . وجعل أبو طالب لما يرى من [أمر] الراهب يخاف على ابن أخيه .
فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال أبو طالب: ابني قال: ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا [قال: فابن أخي] قال: فما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حبلى . قال: فما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا . قال: صدقت ، ارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه اليهود ، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه عنتا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا ، وما روينا عن آبائنا ، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة .
فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعا وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرفوا صفته ، وأرادوا أن يغتالوه ، فذهبوا إلى بحيرا ، فذاكروه أمره ، فنهاهم أشد النهي ، وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم ، قال: فما لكم إليه سبيل .
فصدقوه وتركوه ، ورجع به أبو طالب ، فما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه . [ ص: 296 ]