قصة أهل اليمامة
[قال المصنف]: ولما فرغ خالد من البطاح أقبل إلى المدينة فدخل المسجد وعليه ثياب [عليها] صدأ الحديد ، وعليه عمامة قد غرز فيها ثلاثة أسهم ، فلما رآه [ ص: 80 ] رضي الله عنه قال: أرئاء يا عدو الله ، عدوت على رجل من المسلمين فقتلته ثم تزوجت امرأته ، لئن أمكنني الله منك لأرجمنك ، ثم تناول الأسهم فكسرها عمر وخالد ساكت لا يرد عليه شيئا يظن أن ذلك عن رأي أبي بكر ، فلما دخل على أبي بكر أخبره الخبر واعتذر إليه فصدقه وقبل عذره ، وكان يحرض عمر أبا بكر على عزله ، وأن يقيد منه ، فقال أبو بكر: مه يا ما هو بأول من أخطأ ، فارفع لسانك عن عمر ، خالد ، ثم ودى مالكا وأمر خالدا أن يتجهز للخروج إلى مسيلمة الكذاب ، ووجه معه المهاجرين والأنصار ، وكان ثمامة بن أثال الحنفي قد كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه يخبره أن أمر مسيلمة قد استغلظ .
فبعث أبو بكر وأتبعه عكرمة بن أبي جهل شرحبيل بن حسنة ، وقال: الحق بعكرمة فاجتمعا على مسيلمة وهو عليك ، فإن فرغتم فانصرفا إلى قضاعة ، وأنت عليه ، فلما أحس قتال عكرمة بذلك أغذ السير فقدم على ثمامة فأنهضه ، فقال ثمامة: لا تفعل فإن أمر الرجل مستكثف وقد بلغني أن خلفك جندا فيتلاحقون ، فأبى عكرمة وعاجلهم مسيلمة فالتقوا فاقتتلوا فأصيب من المسلمين ، فبعث أبو بكر إلى عكرمة فصرفه إلى وجه آخر .
فلما قدم خالد من البطاح أمره أبو بكر بالسير إلى مسيلمة ، فخرج حتى إذا كان قريبا من اليمامة تقدمت خيل المسلمين ، فإذا هم بمجاعة بن مرارة الحنفي في ستة نفر من بني حنيفة ، فجاءوا بهم إلى خالد ، فقال لهم: يا بني حنيفة ما تقولون؟ فقالوا:
منا نبي ومنكم نبي ، فعرضهم على السيف ، فبقي منهم مجاعة ورجل يقال له: سارية بن عامر .
فلما قدم سارية ليقتل قال لخالد: إن كنت تريد بأهل هذه القرية خيرا أو شرا فاستبق هذا الرجل يعني مجاعة ، ففعل ذلك ، وأوثقه في الحديد ثم دفعه إلى امرأته ، وقال: استوصي به خيرا ، ثم مضى حتى نزل منزلا من اليمامة ، فعسكر به ، فخرج إليه مسيلمة ، وكان عدد بني حنيفة أربعين ألف مقاتل ، وقدم مسيلمة أمامه الرحال بن عنفوة ، وقد كان الرحال قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم وقرأ سورة البقرة . [ ص: 81 ]
فلما رجع إلى مسيلمة شهد له في جماعة من بني حنيفة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشركه في الأمر ، وأنه قد أعطي النبوة كما أعطيها ، وكان قوله أشد على أهل اليمامة من فتنة مسيلمة .
قال جلست في رهط عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبو هريرة: "إن فيكم لرجلا ضرسه في النار مثل أحد" . فهلك القوم وبقيت أنا والرحال فكنت متخوفا لها حتى خرج الرحال مع مسيلمة ، فشهد له بالنبوة قالوا: الرجال .
فخرج يومئذ في مقدمة مسيلمة ومعه محكم اليمامة ، وهو محكم بن طفيل ، والتقى الناس ، فكانت راية المهاجرين مع فقالوا له: انظر كيف تكون؟ إياك أن تفر ، قال: بئس حامل القرآن أنا إذن ، فقاتل حتى قتل . وقال سالم مولى أبي حذيفة ، أبو حذيفة: وحمل فأنفذهم حينئذ [وقتل] . يا أهل القرآن ، زينوا القرآن بالأفعال ،
وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس ، واقتتل الناس قتالا شديدا ، فقتل الرحال ومحكم اليمامة ، أما الرحال فقتله وأما زيد بن الخطاب ، محكم فقتله عبد الرحمن بن أبي بكر ، وثبت مسيلمة ، ثم جال المسلمون حوله فتراجعوا ، فدخلت بنو حنيفة في فسطاط خالد فرعلوه بسيوفهم ، وحمل رجل منهم على أم تميم بالسيف ، فألقى مجاعة عليها رداءه ، وقال: إنها في جواري فنعم الحرة ما علمت ، فأصيب من المسلمين ألف ومائتا رجل ، وانكشف باقيهم . فلما رأى ذلك ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، قال: يا معشر المسلمين ، بئس ما عودتم أنفسكم ، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء - يعني المشركين - وأعتذر إليك مما فعل هؤلاء - يعني المسلمين - ثم قاتل وجالد بسيفه حتى قتل . وكان قد ضرب فقطعت رجله فرمى بها قاتله . فقتله . وقاتل أخو زيد بن الخطاب حتى قتل . فلما رجع عمر ، فقال له: هلا هلكت قبل عبد الله بن عمر زيد ، فقال: قد عرضت على ذلك ولكن الله أكرمه بالشهادة .
وفي رواية أخرى أنه قال له: ما جاء بك وقد هلك زيد ، ألا واريت وجهك عني . [ ص: 82 ]
وكان أخو البراء بن مالك إذا حضر الحرب أخذته العدواء - يعني الرعدة - حتى يقعد عليه الرجال ، ثم ينهم كالأسد ، فلما رأى ما أصاب الناس أخذه ما كان يأخذه ، فثاب إليه ناس من المسلمين ، فقاتلوا قتالا شديدا حتى انحازت بنو حنيفة واتبعهم المسلمون حتى أصاروهم إلى حديقة فدخلوها ثم أغلقوا عليهم ، فقال أنس البراء: احملوني والقوني إليهم ، فألقوه إليهم ففتح الباب للمسلمين وقد قتل عشرة ، فقتل في هذه الحديقة وفي هذه المعركة بضعة عشر ألف مقاتل . وكانت بنو حنيفة تقول لمسيلمة حين رأت خذلانها: أين ما كنت تعدنا؟ فيقول: قاتلوا عن أحسابكم . وقتل الله عز وجل مسيلمة ، اشترك في قتله رجلان: رجل من الأنصار ، ووحشي مولى جبير بن مطعم . وكان وحشي يقول: وقعت فيه حربتي وضربه الأنصاري والله يعلم أينا قتله .
وكان يقول: قتلت خير الناس وشر الناس ، حمزة ومسيلمة . وكانوا يقولون: قتله العبد الأسود ، فأما الأنصاري فلا شك أن أبا دجانة سماك بن خرشة قتله .
فلما أخبر خالد بقتل مسيلمة خرج بمجاعة يرسف في حديده ليدله على مسيلمة ، فمر بمحكم بن الطفيل ، فقال خالد: هذا صاحبكم؟ قال: لا هذا والله خير منه وأكرم ، ثم دخل الحديقة ، فإذا رويجل أصيفر أخينس ، فقال له مجاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم [منه] ، فقال خالد: هذا فعل بكم ما فعل ، قال: قد كان ذلك يا خالد ، وإنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس ، وإن جماهير الناس لفي الحصون .
قال: ويلك ما تقول؟
قال: هو والله الحق ، فهلم لأصالحك على قومي . فدعني حتى آتيهم وأصالحهم عنك ، فإنهم يسمعون مني ، ودخل الحصن ، فأمر الصبيان والنساء فلبسوا السلاح ثم أشرفوا عليه وخالد يظنهم رجالا ، فلما نظر إليهم وقد قتل أكثر أصحابه صالح مجاعة [ ص: 83 ] عنهم الربع من السبي والحمراء والبيضاء والحلقة ، ثم علم بعد ذلك أنهم كانوا صبيانا ونساء ، فقال لمجاعة: خدعتني ، فقال: قومي أفنتهم الحرب ، فلا تلمني فيهم .
فلما فرغ من صلحهم إذا كتاب من أبي بكر رضي الله عنه قد جاءه أن يقتل منهم كل من أنبت ، فجاءه الكتاب بعد الصلح ، فمضى عليهم الصلح ، فلم يقتلوا ، ثم خطب خالد إلى مجاعة ابنته ، فقال له: مهلا أيها الرجل إنه قاطع ظهري وظهرك عن صاحبك تزوج النساء وحول أطنابك دماء ألف ومائتي رجل من المسلمين ، فقال: زوجني لا أبا لك ، فزوجه فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه ، فكتب إليه: لعمري يا ابن أم خالد ، إنك لفارغ حين تتزوج النساء وحول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد ، فإذا جاءك كتابي فالحق بمن معك من جموعنا بأهل الشام ، واجعل طريقك على العراق ، فقال وهو يقرأ الكتاب: هذا عمل الأعيسر - يعني عمر بن الخطاب .
قال علماء السير: قتل من المسلمين يوم اليمامة أكثر من ألف ، وقتل من المشركين نحو عشرين ألفا ، وكانت في قول جماعة منهم حرب اليمامة سنة إحدى عشرة أبو معشر . فأما فإنه قال: فتح ابن إسحاق اليمامة واليمن والبحرين ، وبعث الجنود إلى الشام في سنة اثنتي عشرة .