قال وقد يؤاخذ الإنسان بشيء من أفعال القلب نحو إرادة العزم والرضى بالفعل ، والسخط به ، والاختيار له ، والنية عليه ، ومثل الحسد ، والطمع ، وتعليق القلب بما دون الله عز وجل والنفاق والرياء والإعجاب ، وأما ما لا يؤاخذ به فهو كالخواطر واردة عليه مما لا يدخل تحت قدرته انتهى كلامه ، ويأتي قريبا كلام الشيخ ، في ركون القلب إلى غير الله عز وجل وقد قال تعالى حاكيا عن عبد القادر يوسف عليه السلام { وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين } .
قال المفسرون : عقوبة له على تلك الكلمة فاستعان بمخلوق أي بعدد السنين التي كان لبثها ، وكذا ذكره ابن الجوزي ، ومذهب القاضي أن من أبي بكر بن الطيب ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه ، ويفرق بين الهم ، والعزم قال عزم على المعصية بقلبه المازري : وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الأحاديث قال : مذهب عامة القاضي عياض السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب لكنهم قالوا : إن هذا العزم يكتب سيئة ، وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها ، وقطعه عنها قاطع غير [ ص: 101 ] خوف الله عز وجل والإنابة لكن نفس الإصرار والعزم معصية فكتبت معصية فإذا عملها كتبت معصية ثانية ، فإن تركها خشية الله عز وجل كتبت حسنة كما في الحديث { إنما تركها من جرائي } فصار تركه لها لخوف الله عز وجل ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة ، فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية ولا عزم .
وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف الله عز وجل بل لخوف الناس هل تكتب حسنة ؟ قال : لا ; لأنه إنما حمله على تركها الحياء وهذا ضعيف . هذا كلامه .
( وجرائي ) بفتح الجيم وتشديد الراء وبالمد والقصر معناه من أجلي . وفي من حديث البخاري رضي الله عنه { أبي هريرة } والله أعلم . وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة
وقد عرف دليل القولين من يرى ومن يرى عدمها مما سبق من لا يرى المؤاخذة يحتج بقوله عليه السلام { المؤاخذة على أعمال القلوب } وبحديث الهم بالسيئة . وقد يحتج بقوله تعالى عن إن الله تعالى تجاوز لأمتي الخبر الحرم : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } .
فخصه بذلك . ومن يرى المؤاخذة فقد يجيب عن الخبر الأول إما بأن عمل القلب عمل فيدخل في اللفظ ، أو يقول إنما يدل على محل النزاع بعمومه فيخص بأدلتنا . وعن الخبر الثاني بأنه لا تصريح فيه ، وإن سلم بظهوره ترك بأدلتنا . وعن الآية الكريمة إما بأن المراد بقوله { ومن يرد } أي يعمل كما سبق أو بأنه خصه للعذاب الخاص وهو العذاب الأليم لا أنه يختص بالمؤاخذة المطلقة بل خصه لاختصاصه بالمؤاخذة الخاصة .
ومن يرى المؤاخذة يحتج بقوله تعالى : { إن بعض الظن إثم } [ ص: 102 ] وبقوله تعالى : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم } .
وبإجماع العلماء على تحريم الحسد ونحوه من النفاق والرياء .
ومن لا يرى المؤاخذة قد يجيب عن الأول بأنا نقول به وهو الظن الذي اقترن به قول أو فعل ، ثم لو كان خلاف الظاهر فلما فيه من الجمع بينه وبين أدلتنا ، وعن الثانية بأن القول مراد فيها بدليل قوله :
{ لهم عذاب أليم } في الدنيا وهو الحد ولا يجب إلا بالقول وأما الحد فهو حق لآدمي تعم البلوى بوقوعه فاحتيج إلى زيادة ردع وهو المؤاخذة بمجرده .
وذكر أن النهي عن الحسد إنما يتوجه إلى من عمل بمقتضى التسخط على القدر أو ينتصب لذم المحسود ، وينبغي أن يكره ذلك من نفسه . وهذا معنى ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي الشيخ تقي الدين ، وذكر قول : غمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعتد به يدا ولسانا ، وعليه أن يكره ذلك من نفسه قال : وفي الحديث { الحسن البصري } انتهى ، وقد ذكر ثلاث لا ينجو منهن أحد الحسد والظن والطيرة ، وسأحدثكم بالمخرج من ذلك إذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامض هذا الخبر الأخير عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الاحتجاج به والقول به وذلك في النسخة الوسطى من الآداب بأبسط من هذا . ابن عبد البر
قال في تاريخه أخبرنا الحاكم أبو بكر بن الجعابي قال : لا تشتغل بالحسد واصبر عليهم فقد حدثونا عن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال : الحسد داء منصف يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود ، كذا ذكره ويتوجه أنه لا يضر المحسود مع ما له من الأجر والثواب . الحاكم
قال [ ص: 103 ] في الفنون افتقدت الأخلاق فإذا أشدها وبالا على صاحبها الحسد فإنه التأذي بما يتجدد من نعمة الله فكلما تلذذ المحسود بنعم الله تعالى تأذى الحاسد وتنغص فهو ضد لفعل الله تعالى ساخط بما قسمه متمن زوال ما منحه خلقه ، فمتى يطيب بهذا عيش ونعم تنثال انثيالا ؟ وهذا المدبر لا يزال بأفعال الله متسخطا وما زال أرحم الناس للنظر في عواقبهم ولو لم يكن إلا النزع وحشرجة الروح فكيف بمقدمات الموت من البلى والضنى فمن شهد هذا فيهم لم يحسدهم والله سبحانه أعلم . ابن عقيل
وأما النفاق في القول أو العمل فلتأثيره في المأمور به شرعا ولهذا الشك مانع في حصوله ووجوده وأما الرياء فإنما يكون في القول أو العمل فأثر لاقترانه بأحدهما .