وقد كان للعلماء قديما حظ من بيت المال يغنيهم  ، وكان فيهم من يعيش في ظل سلطان كأبي عبيد  مع ابن طاهر   ، والزجاج  مع  ابن وهب ،  ثم كان للعلماء من يراعيهم من الإخوان حتى قال  ابن المبارك :  لولا فلان وفلان ما اتجرت ، وكان يبعث بالمال إلى  الفضيل  وغيرهم ، ثم قال ذلك المعنى فصار أقوام من التجار يفتقدون العلماء بالزكاة فيندفع الزمان ، وقد وصلنا إلى زمان تقطعت فيه هذه الأسباب حتى لو احتاج العالم فطلب لم يعط ، فأولى الناس بحفظ المال وتنمية اليسير منه والقناعة بقليله توفيرا لحفظ الدين والجاه ، والسلامة من منن العوام الأراذل العالم الذي فيه دين وله أنفة من الذل . 
وقد قال  منصور بن المعتمر :  إن الرجل ليسقيني شربة من ماء فكأنه دق ضلعا من أضلاعي ، وقد كان أقوام في الجاهلية إذا افتقروا لا يرون سؤال الناس فيخرجون إلى جبل فيموتون فيه . فإذا اتفق للعالم عائلة ، وحاجات وكفت أكف الناس عنه ، ومنعته أنفته من الذل هلك ، فالأولى لمثل هذا ( العالم ) في هذا الزمان المظلم أن يجتهد في كسب إن قدر عليه ، وإن أمكنه نسخ بأجرة  ، ويدبر ما يحصل له ، ويدخر الشيء لحاجة تعرض لئلا يحتاج إلى نذل . 
وقد يتفق للعالم مرفق ، فينفق ، ولا يدخر عملا بمقتضى الحال ونسيانا لما يجوز وقوعه من انقطاع المرفق وطبعا في نفسه من البذل والكرم ، فيخرج ما في يده فينقطع مرفقه فيلاقي من الضرر ، أو من الذل ما يكون الموت دونه . 
 [ ص: 220 ] فلا ينبغي للعاقل أن يعمل بمقتضى الحال الحاضرة ، بل يصور كل ما يجوز وقوعه . 
وأكثر الناس لا ينظرون في العواقب ، فكم من مخاصم سب وشتم وطلق ، فلما أفاق ندم ، وقد كان  يوسف بن أسباط  يزهد ودفن كتبه فلم يصبر عن الحديث فحدث من حفظه فغلط فضعفوه ، وقد تزهد خلق كثير ، فأخرجوا ما بأيديهم ، ثم احتاجوا فدخلوا في مكروهات ، وكان الشبلي  يقدر على خمسين ألفا فتزهد ، وفرقها فنزل به قوم من الصوفية  فبعث إلى بعض أرباب الدنيا يطلب منه فقال له يا شبلي    : اطلب من الله عز وجل ، فقال له : أنا أطلب من الله عز وجل ، وأطلب الدنيا من خسيس مثلك ، فبعث إليه مائة دينار . 
وقال  ابن عقيل    : إن كان بعث إليه اتقاء ذمه فقد أكل الشبلي  الحرام ، وقد تزهد أبو حامد الطوسي ،  وأقام سنين ببيت المقدس ،  ثم عاد إلى وطنه فبنى دارا كبيرة وغرس بستانا . فمثل هذا المتزهد المخرج لماله كمعير لباسه ، كمثل ماء عمل له سكر فإنه يمنعه من الجريان ، ثم يعمل في باطن السكر إلى أن ينقب ، ولهذا كان  أبو هريرة  رضي الله عنه  إذا رأى شبانا قد تنسكوا يقول : الموت الموت جاءهم ، خوفا من تغيير حالهم . وكذلك مخرج المال في حال الغنى إذا لم يحسب وقوع الفقر . 
وقد رأينا  أبا الحسن الغزنوي  وقد بنى له رباطا ببغداد  ووقفت عليه قرية فكان يقول : يدخل لي في كل سنة ثلاثة آلاف وست مائة دينار فألف ومائتان لي ولأولادي ، وألف ومائتان لأهل الرباط ، وألف ومائتان للمجلس ، فكان يعطي العلماء والقراء والزهاد ولا يقبل منه أحد حتى إنه أفطر في رمضان عند الوزير أبي القاسم الزيني  ، فبعث إليه خلعة قبل العيد وهذه عادتهم فيمن يفطر عندهم فحدثني الحاجب  أنه حملها إليه فقال : لا أقبل ، قال : فقبحت له هذا وبالغت حتى قبل على مضض . 
وكان يقول : عرضت علي خمسة آلاف دينار فدفعتها بهذه الأصابع الخمس ، وقلت : لا حاجة لي فيها ، وكان يظن دوام ما هو فيه فاتفق موت السلطان  [ ص: 221 ] مسعود  فأحضر باب الحاكم ووكل به وأخذت منه القرية فافتقر ، فحدثني محاسن بن حماد  قال : كان بين الغزنوي  وبين عبد الرحيم الملقب شيخ الشيوخ  وحشة . 
فلما افتقر الغزنوي  بعث معي إليه بمائة دينار ورقعة بكارات دقيق فجئت بها إليه ، فقال : لا أقبل ، فردها عليه ، ثم التفت إلي لانبساط كان بيننا ، فقال لي : أغنني أنت بعشرة دنانير وخمس كارات ، فالصبيان جياع ، وكان يقول : من الناس من يحب الموت فمات قريبا . وقد كان يمكنه أن يشتري من دجلة  قرى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					