قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون     } . 
فيها أربع مسائل : 
المسألة الأولى : قال بعض علمائنا : في هذه الآية غريبة من القرآن ليس لها أخت في كتاب الله تعالى ; وذلك أنها آية ينسخ آخرها أولها ; نسخ قوله : { إذا اهتديتم    } قوله : { عليكم أنفسكم    } . وقد حققنا القول في ذلك في القسم الثاني من علوم القرآن الناسخ والمنسوخ ، فالحظوه هناك إن شاء الله تعلموه .  [ ص: 226 ] 
المسألة الثانية : روي أن  أبا بكر الصديق  قال : أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم    } . وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله سبحانه بعذاب من عنده . 
وروى { أبو أمية الشعباني  قال : أتيت  أبا ثعلبة الخشني  ، فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ فقال : أية آية ؟ قلت : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم    } ; فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ، ودع أمر العامة ; فإن من ورائكم أياما ، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا ، يعملون مثل عملكم   } الحديث إلى آخره . 
المسألة الثالثة : 
هذه الآية من أصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أصل الدين وخلافة المسلمين : وقد ذكر علماؤنا أبوابه ومسائله في أصول الدين ، وهي من فروعه ، وقد تقدم ذكرنا لها في آيات قبل هذا ، وذكرنا بعض شروطه ، وحققنا أن القيام به فرض على جميع الخلق . وعرضت هذه الآية الموهمة في ابتداء الحال لمعارضتها لما تقدم ، أو لما يتأخر في كتاب الله تعالى من الآيات المؤكدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعند سداد النظر وانتهائه إلى الغاية يتبين المطلوب .  [ ص: 227 ] 
وقد قال تعالى : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه    } . 
وأخبر تعالى أن العذاب واقع بهم لأجل سكوتهم عن المنكر المفعول ، والمعروف المتروك ; وهذا يدل على مخاطبة الكفار بفروع الشريعة ، وأنهم يعذبون على تركها ، وإلى هذا المعنى أشار الصديق  رضي الله عنه آنفا بقوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده   } . وذلك إنما يكون مع القدرة على ذلك بيقين الأمن من الضرر عند القيام به ; يدل عليه قوله في حديث  أبي ثعلبة الخشني    : { فإذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ، ودع أمر العامة   } . وذلك لعدم الاستطاعة على معارضة الخلق ، والخوف على النفس أو المال من القيام بالحق . وتلك رخصة من الله عز وجل يسرها علينا ، وفضله العميم آتاناه ، وقد بينا كيفية العمل فيه والاختلاف عليه . 
ويعضد ذلك الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فليغيره بلسانه ، فإن لم يستطع فليغيره بقلبه ، وذلك أضعف الإيمان   } . 
ولهذا المعنى حدث  أبو سعيد الخدري   مروان بن الحكم  حين أراد أن يصعد المنبر قبل الصلاة في خطبة العيدين ، فقال له مروان    : ذهب ما كنت تعلم . فسكت  أبو سعيد  ، وذكر نحو الحديث المتقدم ; إذ لم يقدر على مخالفة الملك ، ولا استطاع منازعة الإمارة ، وسكت .  [ ص: 228 ] 
فإن قيل : لم لم يخرج عن الناس ، ولم يحضر بدعة ، ويقيم سنة مبدلة ؟ قلنا : في الجواب وجهان : أحدهما : ما قال عثمان  ، حين قيل له إنه يصلي لنا إمام فتنة . قال : " الصلاة أحسن ما يفعل الناس ; فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم " . 
الثاني : أن  أبا سعيد  لم يستطع الخروج ; فإن الموضع كان محاطا به من الحرس مشحونا بحاشية مروان  ، يحفظون أعمال الناس ، ويلحظون حركاتهم ، فلو خرج  أبو سعيد  لخاف أن يلقى هوانا ، فأقام مع الناس في الطاعة ، وخلص بنفسه من التباعة . 
				
						
						
