المسألة السابعة : قوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } فهذان بناءان جاءا بصيغة أفعل ، وأحدهما مباح لقوله : { فانتشروا في الأرض } . والثاني : واجب على ما يأتي تفصيله إن شاء الله ، وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب ; لما يأتي في ذلك من الفوائد ، ويتركب عليه من الأحكام ، فأما الأكل فلقضاء اللذة ، وأما إيتاء الحق فلقضاء حق النعمة ، فلله تعالى على العبد نعمة في البدن بالصحة ، واستقامة الأعضاء ، وسلامة الحواس ، ونعمة في المال بالتمليك والاستغناء ، وقضاء اللذات ، وبلوغ الآمال ; ففرض الصلاة كفاء نعمة البدن ، وفرض الزكاة كفاء نعمة المال ، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ; ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف . [ ص: 282 ]
المسألة الثامنة : قوله تعالى : { وآتوا حقه }
اختلف في تفسير هذا الحق على ثلاثة أقوال :
الأول : أنه الصدقة المفروضة ; قال وغيره ، ورواه سعيد بن المسيب ، ابن وهب وابن القاسم عن في تفسير الآية . مالك
الثاني : أنها الصدقة غير المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصرام ; وهي إطعام من حضر والإيتاء لمن غبر ; قاله . مجاهد
الثالث : أن هذا منسوخ بالزكاة ; قاله ، ابن عباس . وسعيد بن جبير
وقد زعم قوم أن هذا اللفظ مجمل ولم يخلصوا القول فيه ، وحقيقة الكلام عليه أن قوله : { آتوا } مفسر ، وقوله : { حقه } مفسر في المؤتى ، مجمل في المقدار ; إنما يقع النظر في رفع الإشكال الذي أنشأه احتمال هذه الأقوال : وقد بينا فيما سبق وجه أنه ليس في المال حق سوى الزكاة ، وتحقيقه في القسم الثاني من علوم القرآن ، وفي سورة البقرة من هذا التأليف ، وثبت أن المراد بذلك هاهنا الصدقة المفروضة .
وقد أفادت هذه الآية وجوب الزكاة فيما سمى الله سبحانه ، وأفادت بيان ما يجب فيه من مخرجات الأرض التي أجملها في قوله : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } ، وفسرها هاهنا ; فكانت آية البقرة عامة في المخرج كله مجملة في القدر ; وهذه الآية خاصة في مخرجات الأرض مجملة في القدر ، فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بأن يبين للناس ما نزل إليهم ، فقال : { فيما سقت السماء العشر ، وما سقي بنضح أو دالية نصف العشر } ; فكان هذا بيانا لمقدار الحق المجمل في هذه الآية . [ ص: 283 ]
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : { ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة } . خرجه وغيره ، فكان هذا بيانا للمقدار الذي يؤخذ منه الحق ، والذي يسمى في ألسنة العلماء نصابا . مسلم
وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا متباينا قديما وحديثا ; فروي عن وأصحابه : أن الزكاة في كل مقتات لا قول له سواه . وقد أوردناه في كتب الفقه وشرحناه ، وبه قال مالك . الشافعي
وقال : تجب في كل ما تنبته الأرض من المأكولات من القوت والفاكهة والخضر ، وبه قال أبو حنيفة عبد الملك بن الماجشون في أصول الثمار دون البقول .
وقال أقوالا ; أظهرها أن الزكاة تجب في كل ما قال أحمد إذا كان يوسق ، فأوجبها في اللوز ; لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود ، معولا على قول النبي صلى الله عليه وسلم : { أبو حنيفة } ; فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب هو الموسق ، وبين القدر الذي يجب إخراج الحق منه . ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة
وتعلق بالقوت ; وذلك لأن التوسيق إنما يكون في المقتات غالبا دائما . وأما الخضر فأمرها نادر . الشافعي
وأما المالكية { فتعلقت بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من خضر المدينة صدقة } .
وأما فجعل الآية مرآته فأبصر الحق ، وقال : إن الله أوجب الزكاة في المأكول قوتا كان أو غيره وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم قوله : { أبو حنيفة } : وقد أشرنا في مسائل الخلاف إلى مسالك النظر فيها في كتاب الإنصاف والتخليص . وقد آن تحديد النظر فيها كما يلزم كل مجتهد . [ ص: 284 ] فيما سقت السماء العشر
فالذي لاح بعد التردد في مسالكه أن الله سبحانه لما ذكر الإنسان بنعمه في المأكولات التي هي قوام الأبدان وأصل اللذات في الإنسان ، عليها تنبني الحياة ، وبها يتم طيب المعيشة عدد أصولها تنبيها على توابعها ، فذكر منها خمسة : الكرم ، والنخل ، والزرع ، والزيتون ، والرمان . فالكرم والنخل : يؤكل في حالين فاكهة وقوتا .
والزرع يؤكل في نوعين : فاكهة وقوتا . والزيت : يؤكل قوتا واستصباحا . والرمان : يؤكل فاكهة محضة . وما لم يذكر مما يؤكل لا يخرج عن هذه الأقسام الخمسة .
فقال تعالى : هذه نعمتي فكلوها طيبة شرعا بالحل طيبة حسا باللذة ، وآتوا الحق منها يوم الحصاد ، وكان ذلك بيانا لوقت الإخراج ، وجعل كما أشرنا إليه الحق الواجب مختلفا بكثرة المؤنة وقلتها ، فما كان خفيف المؤنة قد تولى الله سقيه ففيه العشر ، وما عظمت مؤنته بالسقي الذي هو أصل الإتيان ففيه نصف العشر .
فأما قول : إنه فيما يوسق لقوله صلى الله عليه وسلم : { أحمد } ، فضعيف ; لأن الذي يقتضي ظاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرا في التمر والحب . فأما سقوط الحق عما عداها فليس في قوة الكلام . وأما التعليق بالقوت فدعوى ومعنى ليس له أصل يرجع إليه ; وإنما تكون المعاني موجبة لأحكامها بأصولها على ما بيناه في كتاب القياس . ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة
وكيف يذكر الله سبحانه النعمة في القوت والفاكهة ، وأوجب الحق منها كلها فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل ، وفيما تنوع جنسه كالزرع ، وفيما ينضاف إلى القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمة في المتاع بلذة البصر إلى استيفاء النعم في الظلم .
فإن قيل : إنما تجب الزكاة في المقتات الذي يدوم ، فأما في الخضر فلا بقاء لها ; ولذلك لم تؤخذ الزكاة في الأقوات من أخضرها ، وإنما أخذت من يابسها .
قلنا : إنما تؤخذ الزكاة من كل نوع عند انتهائه ، باليبس ، وانتهاء اليابس والطيب انتهاء الأخضر ; ولذلك إذا كان الرطب لا يثمر ، والعنب لا يتزبب تؤخذ الزكاة [ ص: 285 ] منهما على حالهما ، ولو لم تكن الفاكهة الخضرية أصلا في اللذة وركنا في النعمة ما وقع الامتنان بها في الجنة . ألا تراه وصف جمالها ولذتها ، فقال : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } فذكر النخل أصلا في المقتات ، والرمان أصلا في الخضراوات .
أولا ينظرون إلى وجه امتنانه على العموم لكم ولأنعامكم بقوله : { أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا } .
فإن قيل : فقد قال تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } . والذي يحصد الزرع .
قلنا : جهلتم ; بل هو عام في كل نبت في الأرض . وأصل الحصاد إذهاب الشيء عن موضعه الذي هو فيه ; قال تعالى : { منها قائم وحصيد } . وقال : { حتى جعلناهم حصيدا خامدين } . وقال : { فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } . وفي الحديث : { } . وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم
فإن قيل : هذا مجاز ; وأصله في الزرع .
قلنا : هذا كله حقيقة ؟ وأصلها الذهاب .
فإن قيل : أليس يقال جداد النخل ، وحصاد الزرع ، جذاذ البقل ؟
قلنا : الاسم العام الحصاد ; وهذه خواص العام على بعض متناولاته . وقد أجاب عنه بعض العلماء بأنه ذكر الحصاد فيما يحصد دليلا على الجداد فيما يجد ; لأن أحدهما يكفي عن الآخر ، ولكن النبات كان أصلا لقوله : فأنبتنا به جنات [ فجعلها قسما ] [ ص: 286 ] وحب الحصيد ، فجعله قسما آخر ; فلما عادل الجميع اكتفى بذكره عن ذكر غيره .
فإن قيل : فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر .
قلنا : كذلك عول علماؤنا . وتحقيقه أنه عدم دليل لا وجود دليل .
فإن قيل : لو أخذها لنقل .
قلنا : وأي حاجة إلى نقله ، والقرآن يكفي عنه .
فإن قيل : الآية منسوخة بأنها مكية و [ آية ] الزكاة مدنية .
قلنا : قد قال : إن المراد به الزكاة المفروضة . وتحقيقه : في نكتة بديعة ; وهي أن القول في أنها مكية أو مدنية يطول . فهبكم أنها مكية ; إن الله أوجب الزكاة بها إيجابا مجملا فتعين فرض اعتقادها ، ووقف العمل بها على بيان الجنس والقدر والوقت ، فلم تكن مالك بمكة حتى تمهد الإسلام بالمدينة ; فوقع البيان ، فتعين الامتثال ، وهذا لا يفقهه إلا العلماء بالأصول .
فإن قيل : قول النبي صلى الله عليه وسلم : { } كلام جاء لبيان تفصيل قدر الواجب بحال الموجب فيه ، وليس القصد منه العموم حتى يقع التعويل عليه في استعمام ما سقت السماء . فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر
قلنا : هذا هو كلام إمام الحرمين ، وهو من مذهباته التي بنى عليها كتاب البرهان ، وظن أنها لم تدرك في غابر الأزمان ، وليس لها في الدلائل مكان .
نحن نقول : إن الحديث جاء للعموم في كل مسقي ، ولتفصيل قدر الواجب باختلاف حال الموجب فيه ، ولا يتعارض ذلك ; فيمتنع اجتماعه ، وقد مهدناه في أصول الفقه .
فإن قيل : فقد خصصتم الحديث في المأكولات من المقتات ، فنحن نخصه في المأكولات أيضا . [ ص: 287 ]
قلنا : نحن خصصناه في المأكولات من المقتات بدليل الإجماع ، ولا دليل لكم على تخصيصه في المقتات ; فإن أعادوا لما تقدم من أقوالهم أعدنا ما سبق عليها من الأجوبة .
المسألة التاسعة :
قال : لا زكاة في الزيتون في أحد قوليه ; قال : لأنه يؤكل إداما ، وأيضا فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه . الشافعي
قلنا له : الزكاة تجب عندنا في التين ، فلا قول لك في ذلك ، وأي فرق بين التين والزبيب ، والزيتون قوت يدخر ذاته ويدخر زيته ; فلا كلام عليه .
المسألة العاشرة :
قال في أظهر قوليه : إنما تكون الزكاة فيما يقتات في حال الاختيار دون ما يقتات به في حال الضرورة ، فلا زكاة في القطاني ، وبه قال مالك الحسن والشعبي وابن سيرين وابن أبي ليلى والحسن بن صالح والثوري وابن المبارك ويحيى بن آدم ، ولذلك اختلف قوله في التين ، فكان لا يوجب فيه الزكاة ، لأنه لا يدريه ، فإذا أخبر عنه ورأى موقعه في بلاده أوجب فيه الزكاة ; وهذا بناء على أصل من أصول الفقه ; وهو أن كلام الله تعالى إذا ورد ، هل يحمل على العموم المطلق أو الغالب من المتناول فيه ؟ والصحيح حمله : على العموم المطلق حسبما بيناه في موضعه . والله أعلم . وأبو عبيد