المسألة الثالثة : قوله تعالى : { على طاعم }
. المحرمات على ثلاثة أقسام : مطعومات ، ومنكوحات ، وملبوسات
فأما المطعومات والمنكوحات فقد استوفى الله بيانها في القرآن كثيرا ، ومنها في السنة توابع .
وأما الملبوسات فمنها في القرآن إشارات وتمام ذلك في السنة ; وقال الله : { قل لا أجد فيما أوحي إلي } الآية .
فأما الميتة والدم فقد تقدم الكلام عليهما في البقرة والمائدة ، وكذلك قوله : { ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله } . وكان ورود ذكر الدم مطلقا هنالك وورد هاهنا مقيدا بالسفح . واختلف الناس في حمل المطلق هاهنا على المقيد على قولين : [ ص: 291 ] فمنهم من قال : إن ، باستثناء السنة كما تقدم . كل دم محرم إلا الكبد والطحال
ومنهم من قال : إن التحريم يختص بالمسفوح ; قالته عائشة ، وعكرمة ، . وقتادة
وروي عن عائشة أنها قالت : لولا أن الله قال : { أو دما مسفوحا } لتتبع الناس ما في العروق .
قال الإمام الحافظ : الصحيح أن الدم إذا كان مفردا حرم منه كل شيء ، وإن خالط اللحم جاز ; لأنه لا يمكن الاحتراز منه ، وإنما حرم الدم بالقصد إليه .
المسألة الرابعة :
اختلف العلماء في هذه الآية على ثلاثة أقوال :
الأول : أنها منسوخة بالسنة ، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم ، وحرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ; خرجه الأئمة كلهم . لحوم الحمر الأهلية
الثاني : أنها محكمة لا حرام فيها إلا فيما قالته عائشة .
الثالث : قال الزهري في أحد قوليه : هي محكمة ، ويضم إليها بالسنة ما فيها من محرم ، فأما من قال : إنها منسوخة بالسنة فقد اختلف الناس في ذلك كما اختلفوا في نسخ السنة بها . ومالك
والصحيح جواز ذلك كله : كما في تفصيل الأصول ، لكن لو ثبت بالسنة محرم غير هذه لما كان ذلك نسخا ; لأن زيادة محرم على المحرمات أو فرض على المفروضات لا يكون نسخا بإجماع من المسلمين ، لا سيما وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية مختلف في تأويله على أربعة أقوال :
الأول : أنها محرمة كما قالوا .
الثاني : أنها حرمت بعلة { } لعلة من خوف الفناء عليها ; فإذا كثرت ولم يضر فقدها بالحمولة جاز أكلها ; فإن الحكم يزول بزوال العلة . أن جائيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : فنيت الحمر . فنيت [ ص: 292 ] الحمر . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ينادى بتحريمها
الثالث : أنها حرمت لأنها طبخت قبل القسمة .
الرابع : أنها حرمت لأنها كانت جلالة خرجه أبو داود . وقد { } . وهذا بديع في وجه الاحتجاج بها ، وقد استوفيناه في شرح الحديث الصحيح . نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل جلالة البقر
وكذلك ما روي عنه في كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير إنما ورد في المسند الصحيح بقوله نهى ، ويحتمل ذلك النهي التحريم ، ويحتمل الكراهية ، مع اختلاف أحوال السباع في الافتراس . ألا ترى إلى الكلب والهر والضبع فإنها سباع ، وقد وقع الأنس بالهر مطلقا وببعض الكلاب ، وجاء الحديث عن أن الضبع صيد ، وفيها كبش . جابر
ولسنا نمنع أن يضاف إليها بالسنة ما صح سنده ، وتبين مورده ، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : { } . وهذا كله على أن مورد الآية [ ص: 293 ] مجهول . فأما إذا تبينا أن موردها يوم عرفة فلا يحرم إلا ما فيها ، وإليه أميل ، وبه أقول . لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل نفسا بغير نفس
قال عمرو بن دينار : قلت : إنهم يزعمون أن { لجابر بن زيد } . قال : قد كان يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية الحكم بن عمرو الغفاري ، ولكن أبى ذلك الحبر يعني ، وقرأ : { ابن عباس قل لا أجد فيما أوحي } الآية ، وكذلك يروى عن عائشة مثله . وقرأت الآية كما قرأها . ابن عباس
المسألة الخامسة :
قال أصحاب : تقدير الآية : قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما مما كنتم تستخبثونه وتجتنبونه إلا أن يكون [ ميتة ] الآية . فأما غير ذلك من المحرمات فلا ; بدليل أن الله حرم أشياء منها المنخنقة وأخواتها . وأجمعت الأمة على تحريم أشياء غير ذلك ، منها القاذورات ، ومنها الخمر والآدمي . الشافعي
الجواب عنه من سبعة أوجه :
الجواب الأول : أن قد رد هذا وأوضح المراد منه والحق فيه ، وهو الحبر البحر الترجمان . ابن عباس
الجواب الثاني : دعوى ورود الآية على سؤال لا يقبل من غير نقل يعول عليه .
الجواب الثالث : لو صح السؤال لما آثر خصوص السؤال في عموم الجواب الوارد عليه . وقد أجمعنا عليه وبيناه فيما قبل .
الجواب الرابع : وأما قولهم : إن الله حرم غير ذلك كالمنخنقة وأخواتها فإن ذلك داخل في الميتة إلا أنه بين أنواع الميتة وشرح ما يستدرك ذكاته مما تفوت ذكاته لئلا يشكل أمره ويمزج الحلال بالحرام في حكمها .
الجواب الخامس : وأما قولهم : أجمعت الأمة على تحريم القاذورات فلا قاذور محرم عندنا إلا أن يكون رجسا فيدخل في علة تحريم لحم الخنزير ، وكذلك الخمر ، وهو : [ ص: 294 ] الجواب السادس : دخلت في تعليل الرجسية .
وأما الجواب السابع : عن الآدمي فهيهات أيها المتكلم ، لقد حططت مسماك إذ أبعدت مرماك ، من أدخل الآدمي في هذا ؟ وهو المحلل له المحرم ، المخاطب المثاب المعاقب ، الممتثل المخالف ، فبينما كان متصرفا جعلته مصرفا ، انصرف عن المقام فلست فيه بإمام ، فإن الإمام هاهنا وراء ، والوراء أمام ، وقد اندرجت : المسألة السادسة : في هذا الكلام .
المسألة السابعة :
روى { مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كره من الشاء سبعا : الدم ، والمرار ، والحياء ، والغدة ، والذكر ، والأنثيين . } وهذه زيادات على هذه المحرمات .
قلنا : عنه جوابان : الأول : أن الكراهية غير التحريم ، وهو بالنسبة إليه كالندب بالنسبة إلى الوجوب .
الثاني : أن هذه الكراهية إنما هي عيافة نفس ، وتقزز جبلة ، وتقذر نوع من أنواع المحلل .
فإن قيل : فقد قال الدم .
قلنا : عنه جوابان : أحدهما : أن هذا استدلال بالقرائن ، فكم من مكروه قرن بمحرم ، كقوله : { } . وكم من غير واجب قرن بواجب ، كقوله تعالى : { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } .
وقوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } .
الثاني : أنه أراد الدم المخالط للحم الذي عفي عنه للخلق وأما المرار المذكور في [ ص: 295 ] الحديث فهو من قول بعضهم الأمر ، وهو المصارين ، ولا أراه أراد إلا المرار بعينه ، ونبه بذكره على علة كراهة غيره بأنه محل المستخبث ; فكره لأجله . والله أعلم .