[ ص: 333 ] الآية الثامنة عشرة :
قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } .
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : روى وغيره أن مالك { عمر بن الخطاب وإذ أخذ ربك من بني آدم } فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية ، فقال : إن عمر آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون . فقال رجل : يا رسول الله ; ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار الله خلق } سئل عن هذه الآية : {
وقد تكلم في سند هذا الحديث بكلام [ قد ] بيناه في كتاب المشكلين .
وقد ثبت وصح عن أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل رجل منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : يا رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك . فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه . فقال : يا [ ص: 334 ] رب ; من هذا ؟ قال : رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود . فقال : رب كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة . قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة . فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت ، فقال : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال : أولم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم ، فجحدت ذريته ; ونسي آدم فنسيت ذريته ; وخطئ آدم ، فأخطأت ذريته } . خرجه لما خلق أبو عيسى وصححه ، ومن رواية غيره ، { } وفي رواية : { فمن حينئذ أمر بالكتاب والشهود أنه رأى فيهم الضعيف والغني والفقير والمبتلى والصحيح فقال له آدم : يا رب ، ما هذا ؟ ألا سويت بينهم ؟ قال : أردت أن أشكر } . وفي رواية أخرى : أنه { أخرجهم من صلب آدم كهيئة الذر ، ثم أخذ عليهم الميثاق ، ثم أعيدوا في صلبه } . وفي رواية أن خطب عمر بالجابية ، فقال : من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . فقال الجاثليق : تركست تركست . فقال الراوي : يقول معاذ الله ، لا يضل الله أحدا . فقال : بل الله خلقك ثم أضلك ، ثم يميتك ، ثم يدخلك النار ; والله لولا ولث من عهدك لضربت عنقك . فقال : إن الله لما خلق نثر ذرية عمر آدم في كفيه ، فقال : هؤلاء للجنة وما هم عاملون ، وهؤلاء للنار وما هم عاملون ، وهذه لهذه ، وهذه لهذه ; قال : فتفرق الناس . وما يختلف اثنان في القدر . وفي رواية عن : { ابن عمر خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو قابض على شيئين في يديه ، ففتح اليمين ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، كتاب من الرحمن الرحيم ، فيه أسماء أهل الجنة بأعدادهم وأعمالهم وأحسابهم ، فجمع عليهم إلى يوم القيامة ، لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم ، وقد يسلك السعداء طريق أهل الشقاء حتى يقال : هم منهم . هم منهم ، ثم [ ص: 335 ] تدرك أحدهم سعادته ولو قبل موته بفواق ناقة . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : العمل بخواتمه ، العمل بخواتمه }
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } وثبت في الصحيح أنه { أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب مقادير الخلق إلى يوم القيامة فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } } قيل : يا رسول الله ; هذا الأمر الذي نحن فيه أمر مستأنف أم أمر قد فرغ منه ؟ فقال : فرغ ربكم . قالوا : ففيم العمل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ; أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة . ومن كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء . ثم قرأ : {
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } . [ ص: 3 36 ] إن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها . وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها
فإن قيل : فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يذنبوا ، أو يعاقبهم على ما أراده منهم ، وكتبه عليهم ، وساقهم إليه ؟ قلنا : ومن أين يمتنع ذلك ؟ أعقلا أم شرعا ؟ فإن قيل : لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك .
قلنا : لأن فوقه آمرا يأمره وناهيا ينهاه ، وربنا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
ولا يجوز أن يقاس الخالق بالمخلوق ، ولا تحمل أفعال الإله على أفعال العباد .
وبالحقيقة الأفعال كلها لله ، والخلق بأجمعهم له صرفهم كيف شاء ، وحكم فيهم كيف أراد ; وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلة ، وشفقة الجنسية ، وحب الثناء والمدح ، لما يتوقع في ذلك من الانتفاع ؟ والباري متقدس عن ذلك كله ; فلا يجوز أن يعتبر به . وقد مهدناه في كتاب المشكلين وفي كتب الأصول .