والكلام حقيقة هو ما يجري في النفس ، والحروف والأصوات عبارة عنه ، وأقل ما يحضر في القلب من العلم علمان اثنان : أحدهما نسق الآخر ، ومثاله أن يعلم أن الجنة مطلوبة ، وأن الموصل إليها آكد العمل الصالح ، فحينئذ يجتهد في العمل ; وآكد من هذا أن تعلم الإيمان بالله بمعرفته ومعرفة صفاته وأفعاله ، وملكوته في أرضه وسمائه ; ولا يحصل ذلك إلا بالنظر في مخلوقاته ، وهي لا تحصى كثرة ; وأمهاتها السموات ، فترى كيف بنيت وزينت من غير فطور ورفعت بغير عمد ، وخولف مقدار كواكبها ، ونصبت سائرة شارقة وغاربة نيرة ، وممحوة ; كل ذلك بحكمة ومنفعة .
والأرض فانظر إليها كيف وضعت فراشا ، ووطئت مهادا ، وجعلت كفاتا ، وأنبتت معاشا ، وأرسيت بالجبال ، وزينت بالنبات ، وكرمت بالأقوات ، وأرصدت لتصرف الحيوانات ومعاشها ; وكل جزء من ذلك فيه عبرة تستغرق الفكرة : والحيوان أحد قسمي المخلوقات ، والثاني الجمادات ; فانظر في أصنافها ، واختلاف أنواعها وأجناسها ، وانقيادها وشرسها ، وتسخيرها في الانتفاع بها ، زينة وقوتا ، وتقلبا في الأرض . [ ص: 353 ]
والبحار أعظم المخلوقات عبرة ، وأدلها على سعة القدرة في سعتها ، واختلاف خلقها ، وتسيير الفلك فيها ، وخروج الرزق منها ، والانتفاع في الانتقال إلى البلاد البعيدة بالأثقال الوئيدة بها .
والهواء فإنه خلق محسوس به قوام الروح في الآدمي وحيوان البر ، كما أن الماء قوام لروح حيوان البحر ، فإذا فارق كل واحد منهما قوامه هلك ، وانظر إلى ركوده ثم اضطرابه ، وهو بالريح .
والإنسان أقربها إليها نظرا ، وأكثرها إن بحث عبرا ، فلينظر إلى نفسه من حين كونها ماء دافقا إلى كونه خلقا سويا ، يعان بالأغذية ، ويربى بالرفق ، ويحفظ باللبن حتى يكتسب القوى ، ويبلغ الأشد ; فإذا به قد قال أنا وأنا ، ونسي حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، وسيعود مقبورا . وهذا زمان وسط بينهما ، فيا ويحه إن كان محسورا فينظر حينئذ أنه عبد مربوب ، مكلف مخوف بالعذاب إن قصر ، مرجى بالثواب إن ائتمر ، فيقبل على عبادة مولاه ، فإنه وإن كان لا يراه يراه ، ولا يخشى الناس فالله أحق أن يخشاه ، ولا يتكبر على أحد من عباد الله فإنه مؤلف من أقذار ، مشحون من أوضار ، صائر إلى جنة إن أطاع ، أو إلى نار . ولذلك كان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكمية التي جمعت هذه الأوصاف العلمية :
كيف يزهى من رجيعه أبد الدهر ضجيعه فهو منه وإليه
وأخوه ورضيعه وهو يدعوه إلى الحش
بصغر فيطيعه