الآية الثالثة :
قوله تعالى { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } .
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى : الأذان : هو الإعلام لغة من غير خلاف ، المعنى براءة من الله وسوله وأذان من الله ورسوله ، أي هذه براءة ، وهذا إعلام وإنذار : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } .
{ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } .
المسألة الثانية : روى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب البخاري بمنى فقال : { } . أيها الناس أتدرون أي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : هذا يوم الحج الأكبر . أتدرون أي شهر هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : شهر حرام . قال : أتدرون أي بلد هذا ؟ [ ص: 450 ] قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : بلد حرام . قال : إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا
وروي عن أيضا قال : { أبي هريرة أبو بكر في تلك الحجة في المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . قال : ثم أردفه النبي صلى الله عليه وسلم أبو هريرة ، فأمره أن ينادي ببراءة . قال بعلي : فأذن معنا أبو هريرة علي بمنى يوم النحر ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . } بعثني
وروى الترمذي عن سليمان بن عمر وابن الأحوص ، حدثنا أبي أنه { ، فإنه موضوع كله ، ألا وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دم أضع من دماء الجاهلية دم العباس بن عبد المطلب الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ، ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوار عندكم ، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ; فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع ، واضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . ألا إن لكم على نسائكم حقا ، ولهن عليكم حقا ، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون . ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن } . [ ص: 451 ] هذا حديث حسن صحيح . شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ، ووعظ ، ثم قال : أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم ; أي يوم أحرم ؟ قال : فقال الناس : يوم الحج الأكبر يا رسول الله . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، ألا لا يجني جان على نفسه ، لا يجني والد على ولده ، ولا ولد على والده ، إن المسلم أخو المسلم ، فليس يحل لمسلم من أخيه إلا ما حل من نفسه ، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، غير ربا
وروي عن الحارث عن قال : { علي ، فقال : يوم النحر يوم الحج الأكبر } . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
وروي أيضا عن قال : { ابن عباس أبا بكر ، وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ، وأتبعه ، فبينما عليا أبو بكر في بعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء ، فخرج أبو بكر فزعا يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو ، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علي أن ينادي بهذه الكلمات ، فانطلقا وحجا ، فقام عليا فنادى أيام التشريق : ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك ، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ولا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن علي بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن } . بعث النبي صلى الله عليه وسلم
وكان ينادي فإذا أعيا قام علي أبو بكر ينادي بها .
وروي عن زيد بن يثيع قال : { بأي شيء بعثت في الحجة ؟ قال : بعثت بأربع : ألا يطوف عليا بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي عهد فعهده إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا } . قال سألت أبو عيسى : هذا حديث حسن .
وروي أيضا عن سماك بن حرب عن قال : { أنس بن مالك أبي بكر ، ثم دعاه فقال : لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا ، فأعطاه إياه عليا } . وهذا حديث غريب من حديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع . أنس بن مالك
[ ص: 452 ] المسألة الثالثة : اختلف الناس في يوم الحج الأكبر ; فروى عن ابن وهب أن يوم الحج الأكبر يوم النحر . مالك
قال : سمعت ابن وهب يقول : لا نشك أن الحج الأكبر يوم النحر ; وذلك لأنه اليوم الذي ترمى فيه الجمرة ، وينحر فيه الهدي ، وتراق فيه الدماء ، وهذا اليوم الذي ينقضي فيه الحج ; من أدرك ليلة النحر فوقف مالكا بعرفة قبل الفجر أدرك الحج ، وهو انقضاء الحج وهو الحج الأكبر .
ونحوه روى ابن القاسم ، وأشهب ، وعبد الله بن الحكم عنه ، وبه قال ، ابن عمر ، وعلي ، وكذلك يروى عن وابن المسيب أنه سئل عن الحج الأكبر ، فقال : " هو يوم يحلق فيه الشعر ، وتراق فيه الدماء ، ويحل فيه الحرام ، وتوضع فيه النواصي " . ابن أبي أوفى
وقال ، عبد الله بن الحارث بن نوفل : " إنه يوم عرفة " وبه قال ومحمد بن سيرين . الشافعي
وقال : " الحج الأكبر القران ، والحج الأصغر العمرة " . مجاهد
قال القاضي : إذا نظرنا في هذه الأقوال فالمنقح منها أن الحج الأكبر الحج ، كما قال ; لكنا إذا بحثنا عن يوم الحج الأكبر فلا شك أن يوم عرفة يوم الحج الأكبر ; لأن الحج مجاهد عرفة ، من أدرك الوقوف بها في يومها أدرك الحج ، ومن فاته الوقوف بها فلا حج له ; بيد أن المراد بالبحث عن يوم الحج الأكبر الذي ذكره الله في كتابه ، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ، ولا شك في أنه يوم النحر لثبوت الحديث الصحيح .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالأذان يوم النحر ، ولثبوت الحديث الصحيح أيضا ، فإنه قال يوم النحر : { } كما تقدم بيانه . أي يوم هذا ، أليس يوم الحج الأكبر ؟
وإن كان قد روي عن { الزبير } . وهذا مما لم يصح سنده . أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال : أتدرون أي يوم هذا ؟ فيقولون : هو يوم الحج الأكبر
وقد احتج على أنه يوم الحج الأكبر بانقضاء الحج فيه من [ ص: 453 ] النسك ، وإلقاء التفث ، وهو الذي قال الله فيه : { ابن أبي أوفى ثم ليقضوا تفثهم } .
وغاص على الحقيقة ، فجمع بين الدلائل ، وقال : إن يوم النحر فيه الحج كله ; لأن الوقوف إنما هو في ليلته ، وفي صبيحته الرمي والحلق والنحر والطواف ، فلا يبقى بعد هذا إشكال ، والله أعلم . مالك
وقد روى أنه قال : لما نزلت " براءة " على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث أبو جعفر محمد بن علي ليقيم للناس الحج قيل له : يا رسول الله ، لو بعثت به إلى أبا بكر الصديق أبي بكر .
فقال : { ، فقال له : اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا عليا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته . فخرج على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدرك علي ، فلما رآه أبا بكر الصديق أبو بكر قال : أمير أم مأمور ؟ قال بل مأمور . ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب } إنه لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي . ثم دعا
. وقد سمعت بعض العلماء يقول : إنما سمي يوم الحج الأكبر ; لأن الناس يجتمعون فيه من كان يقف بعرفة ، ومن كان يقف بالمزدلفة ، وكان النداء في اليوم الذي يجتمع الناس كلهم فيه أولى وأبلغ في المراد .
وهذا وإن كان صحيحا في المعنى ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد سماه يوم الحج الأكبر في حجة الوداع بعد ذلك ، والوقوف كله بعرفة .
سمعت أبا سعيد محمد بن طاهر الشهيد يقول : سمعت الأستاذ أبا المظفر طاهر بن محمد شاه بور [ ص: 454 ] يقول : إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع عليا أبي بكر ; لأن براءة تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صلى الله عليه وسلم وكانت سيرة العرب أنه لا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من بيته ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنةالعرب بالحجة ، وأن يرسل ابن عمه الهاشمي من بيته بنقض العهد ، حتى لا يبقى لهم متكلم . وهذا بديع في فنه .