الآية الرابعة والثلاثون قوله تعالى { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم     } . 
فيها ثلاث مسائل :  [ ص: 567 ] 
المسألة الأولى : في قوله تعالى { الأعراب    } : اعلموا وفقكم الله لسبيل العلم تسلكونها ، وصرفكم عن الجهالات ترتكبونها أن بناء " عرب " ينطلق في لسان العرب على معان لا تنتظم في مساق واحد ، وعلى رأي من يريد أن يجعل الأبنية تنظر إلى المعاني من مشكاة واحدة ; فإن ذلك قد يجده الطالب له ، وقد يعسر عليه ، وقد يعدمه وينقطع له . 
وهذا البناء مما لم يتفق لي ربط معانيه به . 
وقد جاء ذكر الأعراب  في القرآن هاهنا ، وجاء في السنة ذكر العرب  في أحاديث كثيرة ; ولغة العرب  منسوبة إلى العرب  ، والعرب  اسم مؤنث ، فإذا صغروه أسقطوا الهاء فقالوا : عريب . 
ويقال : عرب وعرب بفتح الفاء والعين ، وبضم الفاء وبإسكان العين . 
والعاربة والعرباء ; وهم أوائلهم ، أو قبائل منهم ، يقال إنهم سبع ، سماهم  ابن دريد  وغيره . 
ويقال الأعراب  والأعاريب . 
وقال  ابن قتيبة    : الأعرابي لزيم البادية ، والعربي منسوب إلى العرب  وكأنه يشير إلى أن هذه النسبة قد تكون نسبة جنس كالأعرابي ، وقد تكون نسبة لسان ، وإن كان من الأعاجم  إذا تعلمها . 
وتحقيق القول أن الأعراب جمع ، وهو بناء له في الواحد أمثال منها : فعل وفعل وفعل وفعل ، كقفل وأقفال ، وفلس وأفلاس ، وحمل وأحمال ، وجمل وأجمال ، ولم أجد عربا بكسر الفاء إلا في نوع من النبات لا يستجيب مع سائر الأبنية ، ويا ليت شعري ، ما الذي يمنع أن يكون الأعرابي منسوبا إلى الأعراب ، والعربي منسوبا إلى العرب  ، ويكون الأعراب هم العرب    . 
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { يا سلمان    ; لا تبغضني فتفارق دينك . قال : وكيف أبغضك يا رسول الله ؟ قال : تبغض العرب    } . 
 [ ص: 568 ] وقال : { من غش العرب  لم يدخل في شفاعتي   } . 
وقال : { من اقتراب الساعة هلاك العرب    } . 
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { لتفرن من الدجال حتى تلحقوا بالجبال . قيل : يا رسول الله ; فأين العرب  يومئذ ؟ قال : هم قليل   } . 
وقال أيضا : { سام  أبو العرب  ، ويافث  أبو الروم  ، وحام  أبو الحبش    } . 
ومن غريب هذا الاسم أن بناءه في التركيب للتعميم بناء الحروف في المخارج على الترتيب . 
المسألة الثانية : وهي فائدة القول : اعلموا وفقكم الله أن الله تعالى علم آدم  الأسماء كلها ، فكان مما علم من الأسماء العرب  والأعراب  والعربية ، ولا نبالي كيف كانت كيفية التعلم من لدن آدم  إلى الأزمنة المتقادمة قبلنا ، وقبل فساد اللغة ، فكان هذا اسم اللسان ، واسم القبيلة ، حتى بعث الله محمدا  سيدها ، بل سيد الأمم صلى الله عليه وسلم فأعطى الله لها اسما شريفا ، وهو نبي ، رسول إلى سائر أسمائه حسبما بيناها في شرح الصحيح والقبس وغيره ، وأعطى من آثر دينه على أهله وماله اسما أشرف من " عرب " ومن " قرش " وهو " هجر " فقال : المهاجرون  ، وأعطى من آوى وناضل اسما أشرف من الذي كان وهو " نصر " فقال : الأنصار  ، وعمهم باسم كريم شريف الموضع والمقطع ، وهو " صحب " فقال : أصحابي ، وأعطى من لم يره حظا في التشريف باسم عام يدخلون به في الحرمة ، وهي  [ ص: 569 ] الأخوة ، فقال : { وددت أني رأيت إخواننا . قلنا : ألسنا بإخوانك يا رسول الله ؟ قال : بل أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين يأتون من بعد   } 
فمن دخل في الهجرة أو ترسم بالنصرة فقد كمل له شرف الصحبة ، ومن بقي على رسمه الأول بقي عليه اسمه الأول ، وهم الأعراب    . 
ولذلك قيل { لما صار  سلمة بن الأكوع  في الرعية قال له  الحجاج    : يا سلمة  ، تعربت ، ارتددت على عقبيك . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في التعريب ،   } 
وبعد هذا فاعلموا وهي : 
المسألة الثالثة : أن كل مسلم كان عليه فرضا أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون معه ، حتى تتضاعف النصرة ، وتنفسح الدوحة ، وتحتمي البيضة ، ويسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم دينهم ، ويتعلموا شريعتهم حتى يبلغوها إلى يوم القيامة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : { تسمعون ويسمع منكم   } ، ويسمع ممن سمع منكم ، فمن ترك ذلك ، وبقي في إبله وماشيته ، وآثر مسقط رأسه ، فقد غاب عن هذه الحظوظ ، وخاب عن سهم الشرف ، وكان من صار مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ صار إليه مؤهلا لحمل الشريعة وتبليغها ، متشرفا بما تقلد من عهدتها ، وكان من بقي في موضعه خائبا من هذا الحظ منحطا عن هذه المرتبة .
والذين كانوا معه يشاهدون آياته ، ويطالعون غرته البهية ، كان الشك يختلج في صدورهم ، والنفاق يتسرب إلى قلوبهم ، فكيف بمن غاب عنه ، فعن هذا وقع البيان بقوله : { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله    } ; فمنهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الله ، وعلى إعلاء كلمة الله مغرما لا مغنما ، ومنهم من يسلم له اعتقاده ; فيتخذ ما ينفق وسيلة إلى الله ، وقربة ورغبة في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه عنه . 
				
						
						
