[ ص: 133 ] المسألة الثانية : سكرا } : فيه خمسة أقوال : قوله : {
الأول : تتخذون منه ما حرم الله ; قاله ، ابن عباس والحسن ، وغيرهما .
الثاني : أنه خمور الأعاجم ; قاله ، ويرجع إلى الأول . قتادة
الثالث : أنه الخل ; قاله الحسن أيضا .
الرابع : أنه الطعم الذي يعرف من ذلك كله ; قاله . أبو عبيدة
الخامس : أنه ما يسد الجوع ، مأخوذ من سكرت النهر ، إذا سددته .
المسألة الثالثة : : فيه ثلاثة أقوال : الرزق الحسن
الأول : أنه ما أحل الله ; قاله ابن عباس والحسن وغيرهما .
الثاني : أنه النبيذ والخل ; قاله . قتادة
الثالث : أنه الأول ، يقول : تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ، فجعل له اسمين ، وهو واحد .
المسألة الرابعة : أما هذه الأقاويل فأسدها قول : إن السكر الخمر ، والرزق الحسن ما أحله الله بعدها من هذه الثمرات . ابن عباس
ويخرج ذلك على أحد معنيين : إما أن يكون ذلك قبل ، وإما أن يكون المعنى : أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم ، وما أحل الله لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم . تحريم الخمر
والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر ; فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء ، وتحريم الخمر مدني . فإن قيل ، وهي : [ ص: 134 ]
المسألة الخامسة : إن المراد بقول : { تتخذون منه سكرا } ما يسكر من الأنبذة ، وخلا ، وهو الرزق الحسن . والدليل على هذا أن الله امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم ; فيكون ذلك دليلا على جواز ما دون المسكر من النبيذ ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز ; قاله أصحاب . وعضدوا رأيهم هذا من السنة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أبي حنيفة } . وبما روي أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم ، فإذا كان في اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخدم إذا تغير ، ولو كان حراما ما سقاه إياهم . حرم الله الخمر لعينها والسكر من غيرها
فالجواب أنا نقول : قد عارض علماؤنا هذه الأحاديث بمثلها ، فروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } خرجه ما أسكر كثيره فقليله حرام وجوده ، وثبت في الصحاح عن الأئمة أنه قال : { الدارقطني } . كل مسكر حرام
وروى الترمذي وغيره عن أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عائشة } . وروي : { كل مسكر حرام ، ما أسكر الفرق فملء الكف منه حرام } . فالحسوة منه حرام
وقد ثبت تحريم الخمر باتفاق من الأئمة ، وقد روي عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { النعمان بن بشير } . خرجه إن من الحنطة خمرا ، وإن من الشعير خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من الزبيب خمرا ، وإن من العسل خمراالترمذي وغيره
. [ ص: 135 ] وفي الصحيح عن أنه قال ذلك على المنبر ، فإن كان قاله عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو شرع متبع ، وإن كان أخبر به عن اللغة فهو حجة فيها ، لا سيما وهو نطق به على المنبر ما بين أظهر الصحابة ، فلم يقم من ينكر عليه . عمر بن الخطاب
جواب آخر : أما قولهم : إن الله امتن ، ولا يكون امتنانه وتعديده إلا بما أحل فصحيح ; بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر ، ثم حرمت بعد . فإن قبل : كيف يحرم ما أحل الله ههنا ، وينسخ هذا الحكم ، وهو خبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ .
قلنا : هذا كلام من لم يتحقق الشريعة ، وقد بينا حقيقته قبل ، وأوضحنا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي فذلك الذي لا يدخله نسخ ، أو كان عن الفضل المعطى ثوابا فهو أيضا لا يدخله نسخ ; فأما إن كان خبرا عن حكم الشرع فالأحكام تتبدل وتنسخ جاءت بخبر أو بأمر ، ولا يرجع ذلك إلى تكذيب في الخبر أو الشرع الذي كان مخبرا عنه قد زال بغيره .
وإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله تعالى : { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون } .
يعني أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ، ويكلف ما يشاء ، ويرفع من ذلك بعدله ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، وعنده أم الكتاب .
جواب ثالث : وأما ما عضدوه به من الأحاديث فالأول ضعيف ، والثاني في سقي النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي للخدم صحيح ، لكنه ما كان يسقيه للخدم ; لأنه مسكر ، وإنما كان يسقيه ; لأنه متغير الرائحة ، وكان صلى الله عليه وسلم أكره الخلق في خبيث الرائحة ، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زينب ، فإنهن قلن له : إنا نجد منك ريح مغافير يعني ريحا ننكره . وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة مع أصحاب في كتب الخلاف أثرا ونظرا ، فلينظر هنالك إن شاء الله تعالى . [ ص: 136 ] أبي حنيفة
المسألة السادسة : قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } : وإذا قيل : إن ثمرات الحبوب وغيرها تتخذ منه رزق حسن وسكر . قلنا : هذه الحبوب وسائر الثمرات وإن وقع الامتنان بها ، وكانت لها وجوه ينتفع منها ، فلا يقوم مقام النخل والعنب شيء ; لأن فيه الخل ، وهو أجل منفعة في العالم ، فإنه دواء وغذاء ، فلما لم يحل محل هاتين الثمرتين شيء خصا بالتنبيه عليهما .