المسألة الخامسة : في تنقيح الأقوال وتصحيح الحال :
قد بينا في السالف في كتابنا هذا وفي غير موضع
nindex.php?page=treesubj&link=21377عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب ، وحققنا القول فيما نسب إليهم من ذلك ، وعهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردا أن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله ، لا يزيد عليه ، فإن أخبارهم مروية ، وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين : إما غبي عن مقدارهم ، وإما بدعي لا رأي له في برهم ووقارهم ، فيدس تحت المقال المطلق الدواهي ، ولا يراعي الأدلة ولا النواهي ; وكذلك قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نحن نقص عليك أحسن القصص } ، أي أصدقه على أحد التأويلات ، وهي كثيرة بيناها في أمالي أنوار الفجر .
فهذا
محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى قط ربه ، لا في حال الجاهلية ولا بعدها ، تكرمة من الله وتفضلا وجلالا ، أحله به المحل الجليل الرفيع ، ليصلح أن يقعد معه على كرسيه للفصل بين الخلق في القضاء يوم الحق .
وما زالت الأسباب الكريمة ، والوسائل السليمة تحيط به من جميع جوانبه
[ ص: 577 ] والطرائف النجيبة تشتمل على جملة ضرائبه ، والقرناء الأفراد يحيون له ، والأصحاب الأمجاد ينتقون له من كل طاهر الجيب ، سالم عن العيب ، بريء من الريب ، يأخذونه عن العزلة ، وينقلونه عن الوحدة ، فلا ينتقل إلا من كرامة إلى كرامة ، ولا يتنزل إلا منازل السلامة حتى تجيء بالحيي نقابا ، أكرم الخلق سليقة وأصحابا ، وكانت عصمته من الله فضلا لا استحقاقا ; إذ لا يستحق عليه شيئا رحمة لا مصلحة ، كما تقوله
القدرية للخلق ، بل مجرد كرامة له ورحمة به ، وتفضل عليه ، واصطفاء له ، فلم يقع قط لا في ذنب صغير حاشا لله ولا كبير ، ولا وقع في أمر يتعلق به لأجله نقص ، ولا تعيير .
وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول . وهذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد ; إنما الصحيح منها ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة أنها قالت : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما من الوحي شيئا لكتم هذه الآية : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } يعني بالإسلام ، {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وأنعمت عليه } يعني بالعتق ، فأعتقته : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } إلى قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وكان أمر الله مفعولا } وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا : تزوج حليلة ابنه ، فأنزل الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=40ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير ، فلبث حتى صار رجلا ، يقال له
زيد بن محمد ، فأنزل الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=5ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } .
فلان مولى فلان ، وفلان أخو فلان ، هو أقسط عند الله يعني أنه أعدل عند الله .
قال
القاضي : وما وراء هذه الرواية غير معتبر ، فأما قولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه فباطل فإنه كان معها في كل وقت وموضع ، ولم يكن حينئذ حجاب ، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج ، وقد وهبته نفسها ، وكرهت غيره ، فلم تخطر بباله ، فكيف يتجدد له هوى لم يكن ، حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة .
[ ص: 578 ]
وقد قال الله له : {
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=131ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } . والنساء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين ، فيخالف هذا في المطلقات ، فكيف في المنكوحات المحبوسات ، وإنما كان الحديث أنها لما استقرت عند
زيد جاءه
جبريل : إن
زينب زوجك ، ولم يكن بأسرع أن جاءه
زيد يتبرأ منها ، فقال له : اتق الله ، وأمسك عليك زوجك ، فأبى
زيد إلا الفراق ، وطلقها وانقضت عدتها ، وخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي مولاه زوجها ، وأنزل الله القرآن المذكور فيه خبرهما ، هذه الآيات التي تلوناها وفسرناها ، فقال : واذكر يا محمد إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك ، واتق الله في فراقها ، وتخفي في نفسك ما الله مبديه يعني من نكاحك لها ، وهو الذي أبداه لا سواه .
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى إذ أوحى إليه أنها زوجته لا بد من وجود هذا الخبر وظهوره ; لأن الذي يخبر الله عنه أنه كائن لا بد أن يكون لوجوب صدقه في خبره ، هذا يدلك على براءته من كل ما ذكره متسور من المفسرين ، مقصور على علوم الدين .
فإن قيل : فلأي معنى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك زوجك ، وقد أخبره الله أنها زوجته لا زوج
زيد ؟ قلنا : هذا لا يلزم ; ولكن لطيب نفوسكم نفسر ما خطر من الإشكال فيه : إنه أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبته عنها ، فأبدى له
زيد من النفرة عنها والكراهية فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها .
فإن قيل : فكيف يأمره بالتمسك بها ، وقد علم أن الفراق لا بد منه ، وهذا تناقض ؟ قلنا : بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة لإقامة الحجة ، ومعرفة العاقبة ; ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان ، وقد علم أنه لا يؤمن ، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما ، وهذا من نفيس العلم ; فتيقنوه وتقبلوه .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ وَتَصْحِيحِ الْحَالِ :
قَدْ بَيَّنَّا فِي السَّالِفِ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
nindex.php?page=treesubj&link=21377عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الذُّنُوبِ ، وَحَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِيمَا نُسِبَ إلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَهِدْنَا إلَيْكُمْ عَهْدًا لَنْ تَجِدُوا لَهُ رَدًّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نَبِيًّا إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ أَخْبَارَهُمْ مَرْوِيَّةٌ ، وَأَحَادِيثَهُمْ مَنْقُولَةٌ بِزِيَادَاتٍ تَوَلَّاهَا أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا غَبِيٌّ عَنْ مِقْدَارِهِمْ ، وَإِمَّا بِدْعِيٌّ لَا رَأْيَ لَهُ فِي بِرِّهِمْ وَوَقَارِهِمْ ، فَيَدُسُّ تَحْتَ الْمَقَالِ الْمُطْلَقِ الدَّوَاهِي ، وَلَا يُرَاعِي الْأَدِلَّةَ وَلَا النَّوَاهِيَ ; وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } ، أَيْ أَصْدَقُهُ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي أَمَالِي أَنْوَارِ الْفَجْرِ .
فَهَذَا
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَصَى قَطُّ رَبَّهُ ، لَا فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا بَعْدَهَا ، تَكْرِمَةً مِنْ اللَّهِ وَتَفَضُّلًا وَجَلَالًا ، أَحَلَّهُ بِهِ الْمَحَلَّ الْجَلِيلَ الرَّفِيعَ ، لِيَصْلُحَ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْقَضَاءِ يَوْمَ الْحَقِّ .
وَمَا زَالَتْ الْأَسْبَابُ الْكَرِيمَةُ ، وَالْوَسَائِلُ السَّلِيمَةُ تُحِيطُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ
[ ص: 577 ] وَالطَّرَائِفُ النَّجِيبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ ضَرَائِبِهِ ، وَالْقُرَنَاءُ الْأَفْرَادُ يَحْيَوْنَ لَهُ ، وَالْأَصْحَابُ الْأَمْجَادُ يَنْتَقُونَ لَهُ مِنْ كُلِّ طَاهِرِ الْجَيْبِ ، سَالِمٍ عَنْ الْعَيْبِ ، بَرِيءٍ مِنْ الرَّيْبِ ، يَأْخُذُونَهُ عَنْ الْعُزْلَةِ ، وَيَنْقُلُونَهُ عَنْ الْوَحْدَةِ ، فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا مِنْ كَرَامَةٍ إلَى كَرَامَةٍ ، وَلَا يَتَنَزَّلُ إلَّا مَنَازِلَ السَّلَامَةِ حَتَّى تَجِيءَ بِالْحَيِيِّ نِقَابًا ، أَكْرَمَ الْخَلْقِ سَلِيقَةً وَأَصْحَابًا ، وَكَانَتْ عِصْمَتُهُ مِنْ اللَّهِ فَضْلًا لَا اسْتِحْقَاقًا ; إذْ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا رَحْمَةً لَا مَصْلَحَةً ، كَمَا تَقُولُهُ
الْقَدَرِيَّةُ لِلْخَلْقِ ، بَلْ مُجَرَّدُ كَرَامَةٍ لَهُ وَرَحْمَةٍ بِهِ ، وَتَفَضُّلٍ عَلَيْهِ ، وَاصْطِفَاءٍ لَهُ ، فَلَمْ يَقَعْ قَطُّ لَا فِي ذَنْبٍ صَغِيرٍ حَاشَا لِلَّهِ وَلَا كَبِيرٍ ، وَلَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِأَجْلِهِ نَقْصٌ ، وَلَا تَعْيِيرٌ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ . وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا سَاقِطَةُ الْأَسَانِيدِ ; إنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا مِنْ الْوَحْيِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ ، {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ } يَعْنِي بِالْعِتْقِ ، فَأَعْتَقْته : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } إلَى قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا : تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=40مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ ، فَلَبِثَ حَتَّى صَارَ رَجُلًا ، يُقَالُ لَهُ
زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=5اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } .
فُلَانٌ مَوْلَى فُلَانٍ ، وَفُلَانٌ أَخُو فُلَانٍ ، هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّهُ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ .
قَالَ
الْقَاضِي : وَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَبَاطِلٌ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَوْضِعٍ ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حِجَابٌ ، فَكَيْفَ تَنْشَأُ مَعَهُ وَيَنْشَأُ مَعَهَا وَيَلْحَظُهَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ ، وَلَا تَقَعُ فِي قَلْبِهِ إلَّا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ ، وَقَدْ وَهَبَتْهُ نَفْسَهَا ، وَكَرِهَتْ غَيْرَهُ ، فَلَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ هَوًى لَمْ يَكُنْ ، حَاشَا لِذَلِكَ الْقَلْبِ الْمُطَهَّرِ مِنْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ الْفَاسِدَةِ .
[ ص: 578 ]
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=131وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } . وَالنِّسَاءُ أَفْتَنُ الزَّهَرَاتِ وَأَنْشَرُ الرَّيَاحِينِ ، فَيُخَالِفُ هَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ ، فَكَيْفَ فِي الْمَنْكُوحَاتِ الْمَحْبُوسَاتِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْحَدِيثُ أَنَّهَا لَمَّا اسْتَقَرَّتْ عِنْدَ
زَيْدٍ جَاءَهُ
جِبْرِيلُ : إنَّ
زَيْنَبَ زَوْجُك ، وَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ أَنْ جَاءَهُ
زَيْدٌ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا ، فَقَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ ، وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك ، فَأَبَى
زَيْدٌ إلَّا الْفِرَاقَ ، وَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَخَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَدَيْ مَوْلَاهُ زَوْجِهَا ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ الْمَذْكُورَ فِيهِ خَبَرُهُمَا ، هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا وَفَسَّرْنَاهَا ، فَقَالَ : وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ : أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي فِرَاقِهَا ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ يَعْنِي مِنْ نِكَاحِك لَهَا ، وَهُوَ الَّذِي أَبْدَاهُ لَا سِوَاهُ .
وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذْ أَوْحَى إلَيْهِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ هَذَا الْخَبَرِ وَظُهُورِهِ ; لِأَنَّ الَّذِي يُخْبِرُ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِوُجُوبِ صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ ، هَذَا يَدُلُّك عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ مُتَسَوِّرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ، مَقْصُورٌ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِأَيِّ مَعْنًى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا زَوْجُ
زَيْدٍ ؟ قُلْنَا : هَذَا لَا يَلْزَمُ ; وَلَكِنْ لِطِيبِ نُفُوسِكُمْ نُفَسِّرُ مَا خَطَرَ مِنْ الْإِشْكَالِ فِيهِ : إنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلِمْهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَغْبَتِهِ فِيهَا أَوْ رَغْبَتِهِ عَنْهَا ، فَأَبْدَى لَهُ
زَيْدٌ مِنْ النُّفْرَةِ عَنْهَا وَالْكَرَاهِيَةِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مِنْهُ فِي أَمْرِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالتَّمَسُّكِ بِهَا ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْفِرَاقَ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ؟ قُلْنَا : بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِلْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَمَعْرِفَةِ الْعَاقِبَةِ ; أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعَبْدَ بِالْإِيمَانِ ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ ، فَلَيْسَ فِي مُخَالَفَةِ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ لِمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْأَمْرِ بِهِ عَقْلًا وَحُكْمًا ، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْعِلْمِ ; فَتَيَقَّنُوهُ وَتَقَبَّلُوهُ .